حبّ أم أمومة؟
قرأت كثيراً أنَّ الإناث في الحبّ أمهات. وكنت أشعرُ بمعنى هذه العبارة دوماً، لكن اليوم حدث شيء مختلف، مخيف، طبيعي، وربّما جميل.
أستلقي في سريري، ودون أن أشعر آخذ وضعية الجنين. تأتي من الراديو موسيقى هامسة، لأنني لا أنام دون صوت يصدح جواري. ثمّة خوفٌ يتملكني ولا أدري ممّا. أعيش وحيدة في بيت صغير، يحتاج صوتين ربّما، أو هكذا أشعر على الأقل.
بجواري منفضة السجائر، كأس ماء، دفتري الصغير وضوء يسقطُ على صورةٍ لشخصين تائهي الملامح واضحي الحبّ. تستطيع معرفة أنّهما حبيبان، جسداهما وانحناءاتهما بينما يحتضنها تُفشي سرهما. أغمض عيني فيأتيني صوتٌ من الصورة: "ثقي بي".
يدي تحت رأسي تذهب نحو رحمي دون شعورٍ مني. تبدأ بالزحف على صدري، ثم بطني بتردّد، لتستقرَ فوقَ انتفاخٍ شعرتهُ رحمي. أتحسّسه جيداً من كلّ الجوانب، عينايَ مغمضتان، وتكوري يزداد. أضغط قليلاً، أحاول الشعور بركلةٍ منهُ ربّما، أنصتُ جيداً وأصابعي، لعلّنا نسمع صوتاً من هناك، أفتح عيني، أزيح الغطاء وأنظر.
إنه واضح ويكبرُ بسرعة. البارحة كان أخف. أتذكر أنّني وأنا عائدة من عملي مرّرتُ بجوار طفلين وفكرت: هل أستطيع إجهاضهُ دون إيلامهِ! جملة مرّت أمامي وذهبت.
في السرير، أعيد الغطاء وأستلقي على ظهري لأختبر مدى صدق ما أرى. لو أنهُ فقط سمنة أو هواء محبوس فسوف يختفي. لم أنظر، بل عدت بيديّ إليه وشعرتُ بهِ. نظرت، فكان أكبر مما كان عليه منذ قليل.
لن يكون هناك، سيبقى عالقاً في الحب ذاك، ويركض بين الأماكن الأخرى الغريبة لغاية لا أعرفها
أشعرُ بخوف قوي ينتفض داخلي، صرخةٌ تتهشم على حنجرتي بقسوة. أغمض عينيّ بقوة وكأنني أعصرهما وأنام على الطرف الآخر. أتكوّر أكثر وأكثر، وأحاول ألّا أفكر، ألّا أشعر بهِ.
يمرّ والداي أمامي وهما يضحكان بينما يقولان "هذهِ ابنتنا". جدي يضع يده على كتفي ويقول، "حفيدتي قوية"، بينما صديقتي تخبر أحدهم "إنها حنونة، صادقة وبريئة".
لا أشعرُ بشيء إلّا بأنّ الكون يسقط على صدري. أحاول التذكّر جيداً، هل سهوت عن نفسي؟ هل كنت غائبةً عن الوعي ذات لحظة؟ أدور في دائرة مفرغة من الشكوك، كانت كلّها تتجه نحوي بحدّة.
لا لا... أعرف جيداً أنّني لم أفعل شيئاً. إذًا، ما هذا الذي داخلك يا فتاة؟ أعود وأراه أكبر. حامل بشكلٍ واضح! كيف سأخرج للناس؟ أي ّطبيب سيقبل الإجهاض؟ كيف سأنطق بكلمة أريد التخلص منهُ، أم أنّني خائفة منهُ، وهل هذا ذنبهُ؟ وهل سيكون الوضع أرحم لو أنني أبقيتهُ؟ أم أنّني سعيدة وأريدهُ، فها أنا للمرّة الأولى أشعر بأمومتي. هذه الولادة من عدمٍ لا أريدُ خسارتها. نحن أمهات، في النهاية، أمهات، ومهما هربنا من هذا الشعور، فإنه سيأتي كلّ مرّة راكضاً إلى صدرنا ليغرق فيه ويدخلنا نحو العمق، ولذلك لا نعرف كيف يكون التخلّي.
أغيّر وضعية جلوسي. غسلتهُ بدموعي قبل ولادتهُ، بابتسامة باكية سعيدة، لكنها خائفة. بدأت أداعبُه وأحكي لهُ عن والدهِ، عن سعادتي التي كانت حين أجلسُ معهُ، وأنّنا كثيرًا ما تعانقنا لساعاتٍ وموج البحر يقرص أصابع أقدامنا العارية كقلبينا أمام الأفق. وأنّنا دون أن نشعر نحبّ، وكأنّها فطرةٌ ضروريةٌ تمتلكنا، لا نحنُ.
أضحك وأغنّي له الأغاني التي سهرنا ووالدهُ عليها، تلك التي كانت بيننا في أول جلوس لنا، القبلة الأولى في العناق الأول، والتي تصاعدت مع ضحكاتنا ونحن نجري خلف بعضنا في المنزل ليصل إلي ويخبئني بين ذراعين وشعور.
كثيرةٌ الأغاني التي قلتها. قرأت لهُ ما كتبتُ لوالدهِ، هو وحده سيفهم، فهوَ جاء منّا، إذاً يدرك ماهية المعنى.
امرأة مثلي لن تعيش الحبّ قط، أمومتها ثكلى قبل الولادة
أنظر نحو اليمين. بجواري الحائط، وفي نقطة منهُ حيث وقع بصري، تقشّر الطلاء على شكلِ مهدٍ صغير. ألمسهُ بعد تردّدٍ، فأحترق، وأنتفض، وأصبح في زاوية الغرفة فجأة وأصرخ. أصرخ بألمٍ قاهر، فهذا المهد ما هو إلا السرير الذي استقبلتُ فوقهُ الصباح على وجهِ حبيبي، وكأنني أصبحت شاعرية، أو أردت أن أعيش الخيال للحظاتٍ قليلة، شاعرية أدت لأن يستيقظ ويضمني ويقبلني. على امتداد جسدي قبّلني وزرع الخيبات في كلّ بقعة، وحيثُ ابننا الآن، كان يمازح جلدي بقُبلٍ بطيئةٍ طويلة، وبعض من نَفَسٍ ملتهب.. فهل هذهِ خطئيتنا؟ أم أنها وهمٌ ككلّ ما أعيشهُ، وأنني ما كنتُ أمّاً قط؟ أم أنها كثافة شعورٍ جعلتنا عاريين دون أن نشعر ونغرق في بعضنا، ونحنُ ما زلنا نجلسُ بجوار بعضنا ونتحدث؟ وهل هذا ابن بشريّ أم أنهُ ابنٌ عاطفيّ، ولن يولد، سيكبر حتى يموت داخلي ويدفن بين دمي الذي لن يخرج، وحينها سأكون قد خسرتُ الابن والأب؟
أو لعليَ أخطأت، فهذا الحبّ يحتاج أبوين ليولد، عائلة؟ وأنا هنا أمٌّ وحيدة تماماً لا تعرفُ شيئاً ولا أحداً. وبعد انتهاء الحرب في الوطن ستدركُ أنها قصة حبّ زمانية بحكم صوت البندقية، وخوف الآخر الذي أحبّت، خوف ضياع العمر دون أن يرى الحب، فيطلق نفسهُ في كلّ الطرق، لعلهُ يجدهُ وإن فعل، ولفرط تشابههِ مع الرصاصة، لا يستطيعُ أن يدخل جسداً ويسكن دون صوتٍ فيهِ، فيذهب لجسد آخر ودماء الأوّل صارت بين البارود ولن تُمحى. لن يكون هناك، سيبقى عالقاً في الحب ذاك، ويركض بين الأماكن الأخرى الغريبة لغاية لا أعرفها.
اكتبُ لهُ رسالةً من جملتين، وأنهي الحكاية دون لقاء. ثمّ أنظر لرحمي التعس مرّةً أخرى، ابني أيضا ذهب. مات ربّما، أو ما كان قط. أتنفسُ الصعداء. لن أخشى عائلتي ومن أعرف، لا شيء يلسعني بصوتهِ، أنا لنفسي ونفسي ليست غريبة عني.
لكنني أعرف تماماً أنّ امرأة مثلي لن تعيش الحبّ قط، أمومتها ثكلى قبل الولادة، وأنني أكتبهُ لأخففَ مرارةَ الإدراك لا أكثر.