حب بعد الخمسين
هي لحظة من لحظات العمر النادرة. دخلتْ عليَّ ابنةُ أخي "نازك" في غرفة المكتب، حيث أجلس كلَّ يوم ساعاتٍ طويلةً أمام الكومبيوتر. أنضد قصصي ومقالاتي ومسلسلاتي التلفزيونية والإذاعية،... وأبلغتني أن زميلتها المعلمة في المرحلة الابتدائية "هيفاء" تسأل عني باهتمام!
صعدت الدماء إلى وجهي، وتذكرت في تلك اللحظة أنني تجاوزت سن الخمسين منذ حوالي خمس سنوات. ويبدو أنني، في زحمة العمر قد نسيت، أو تناسيت، أو أقنعت نفسي بأنني لم أعد رجلاً صالحاً للحب، أو، بمعنى آخر: إذا كنت أنا مستعداً لأن أحب امرأة ما، فإنه ليس في مصلحة تلك المرأة أن تحبني بعد أن ابيضَّ شعري وتناقص، وبَدَّلْتُ بأسناني أخرى اصطناعية، وتهدل جلد رقبتي، وشق الدكتور بشار عزت صدري ورقع شرايين قلبي، وبعد حين من الزمان قص الدكتور يونس أحمد كرةَ مفصل ساقي اليمنى وزرع مكانها كرة اصطناعية تساعدني على أن أمضي بقية عمري واقفاً على قدمي، بدلاً من أن أمضيها كسيحاً طريح الفراش.
في تلك اللحظة النادرة شعرت بدفء الحياة، وتراجعت عن رأي سابق كنت قد تهكمتُ فيه على أولئك المتفائلين الذين يغنون للحب زاعمين أنه لا يفرق بين شاب يمشي على رؤوس أصابع قدميه ويكاد يطير من خفة ورشاقة، وكبير شائب تستوطن الأمراض جسده، وينتظر ليلة الجمعة ليموت على الإيمان!
وقلت مخاطباً نفسي متحسراً: قد تكون هذه الـ "هيفاء" واحدةً من المعجبات بكتاباتي الأدبية، أو مسلسلاتي التلفزيونية والإذاعية، دون أن تكون معجبة بي شخصياً، مثلها مثل الآنسة ريما التي التقيتها قبل بضع سنوات، وكانت جلطتي القلبية لما تزل في بداياتها، وراعها أن تراني أدخن وأطلق سحائب الدخان من فمي وأنفي مثل ميكروباص انبعجت فيه طرمبة الزيت، فمدت أصابعها الناطقة بالجمال وأخذت لفافة التبغ من بين أصابعي وأطفأتها وهي تقول لي:
- يا أستاذ أنت ملكنا جميعاً، وليس من حقك أن تهلك نفسك بالتدخين.
قلت لابنة أخي نازك:
- عمو، الست هيفاء اللي عم تسأل عني باهتمام، أيش مواصفاتها؟
قالت: هي يا عمو ست مطلقة، في الأربعين من عمرها، متوسطة الجمال...
واستمرت نازك في عرض مواصفاتها، ولكنني بدءاً من هذه اللحظة أصبحت أرى فمها يتحرك، وأرى يديها وتعابير وجهها تترافق مع حركة فمها، وشردتُ مع الصفات الأولى التي ذكرتها، ورحت أقول لنفسي:
- أولاً، هي في سن الأربعين، يعني على مقاسي، عز الطلب لرجل في الخامسة والخمسين، وثانياً هي مطلقة، يعني إذا أقمتُ معها صداقة لن تنط لي بين حين وآخر لتقول لي: (ما بحسن بطلع معك، بخاف يشوفنا حدا ويحكي لجوزي).. متوسطة الجمال؟ يا سلام! بشرفي إن هذه الصفة هي الأروع بين صفاتها الأخرى، يعني لو كانت، فرضاً، جميلة، فهل يعقل أن يتركها الشبانُ المتفرغون للحب وملاحقة النسوان لي ولأمثالي من الكتاب المعطوبين من جوة ومن بره؟
سمعت ابنة أخي نازك تقول لي لتخرجني من شرودي:
- ايه، عمو، وَحِّدوه! أين صرنا؟
قلت لها: آسف، شردت. بودك الصراحة يا عين عمك؟ أنا مضطر جداً لمقابلة هذه الإنسانة والتعرف عليها، فأرجوك هبي لمساعدتي وثوابك عند الله كبير!
ضحكت نازك وقالت لي:
- طول بالك عم، إذا أنت مضطر مرة، هي مضطرة عشرين، ولعلمك هي التي تلح علي لأعرفها عليك بأسرع ما يمكن، وبالأخص قبلما يجي العيد.
كنا قد اقتربنا من العيد مسافة عشرة أيام أو أكثر قليلاً، ولم أكن أعرف ما هي العلاقة التي يمكن أن تربط بين العيد وامرأة ترغب بأن تتعرف على رجل يشتغل في الأدب والصحافة!
المهم، في اليوم التالي، دخلت ابنة أخي نازك علي غرفة المكتب ومعها "هيفاء". لم تكن متوسطة الجمال كما زعمت نازك، بل يمكن القول بأنها جميلة إلى حد ما، سمينة بعض الشيء، ولكن هذا ليس فألاً سيئاً، فالمرأة في هذا السن لا يمكن أن تكون نحيفة، تضع على رأسها "إيشارب" لا يسمح لشعرة واحدة من رأسها أن تظهر للعيان، ولكنني أكاد أجزم أن "الإيشارب" قد أضفى عليها جرعة إضافية من الجاذبية، على عكس بعض النساء اللواتي يبدون بالإيشارب وكأنهن قرعاوات!.. قصيرة؟ ما بها القصيرة؟ ألم يقل الحجاج ابن يوسف الثقفي لأصحابه: مَن تزوج منكم القصيرة ولم تعجبه فَـعَـلَـيَّ مهرُها؟
قالت: صباح الخير أستاذ.
لثغتُها بحرف الراء أطارت خمسةً وعشرين ضباناً من ضبانات عقلي، وبقيت الضبانات الأخرى سائبة، تقرقع ضمن قرعة رأسي كما تقرقع الجوزتان إذا وضعتا في خُرج واسع ملقى على ظهر دابة هزيلة.
وشرعت تتلفت في أرجاء الغرفة، ركزت بصرها، خصوصاً، على أكوام الكتب والصحف والمجلات الملقاة هنا وهناك في غرفة مكتبي، عدا عن (سيديات) الكومبيوتر وعلب أجهزة الموبايل الفارغة التي لم أفهم حتى الآن لمَ يحتفظ بها أولادي. جلستْ على أحد القلاطق الخالية من الكراكيب والقراقيع وقالت لي:
- صدقني يا أستاذ، أمي هلكتني من النق.
خطفتُ الكوب من رأس الماعون وقلت لها ما معناه إن نقيق الأمهات شيء طبيعي،... وباعتبار أنهن سيدات متقدمات في السن، فإن سبل الحياة تضيق عليهن، ويدب فيهن العجز الجسدي، ويشعرن بفراغ الحب، ويسعين إلى تعويض هذا كله بجذب اهتمام أبنائهن وبناتهن إليهن.
ضحكتْ ضحكة أجهزتْ على ما تبقى في قرعة رأسي من ضبانات، وقالت لي:
- طول بالك يا أستاذ، هادا حكي نظري. الله وكيلك أمي إذا ضربتها بالجدار ترجع إليك سليمة، وما عندها أزمة حب، لأن أبي ما يزال على قيد الحياة، ويحبها فوق الوصف، وطول ما هي قاعدة تشتكي من حبه المفرط للحياة!
دهشت وأنا أسمع هذه المواصفات العجيبة عن والدتها التي لا بد وأنها تجاوزت الخامسة والستين، ومواصفات أبيها الذي يتاخم السبعين، وقلت لها:
- لكان والدتك ليش تنق عليكي؟
قالت: منشان العيد. بدها تعزل البيت وتنضفه، وعم تنق علي منشان دبر لها جرايد عتيقة منشان تمدها على رفوق المطبخ.
قالت هذا وهي تغمزني مشيرة ببصرها نحو ابنة أخي نازك، وكأنها أرادت أن تبلغني أن ما تكنه لي من مشاعر لا يمكن طرحه بوجود نازك، وتابعت تقول وعلى وجهها ابتسامة ذكية:
- وأنا لما شفت رفيقتي نازك تذكرت أن عمها، يعني حضرتك، كاتب وصحفي، قلت لحالي أكيد أجد عندك جرايد عتيقة منشان التعزيل والحوسة!!
ــــــــــــــــــــ
*من مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه حلب ـ 2006