حرب روسيا ضد أوكرانيا.. إن هي إلا رمية نرد
بمناسبة الاحتفال السّنوي بذكرى الإنزال العظيم للجيوشِ المُحرِّرة على شواطئ النورماندي (إحدى المناطق في شمال فرنسا) في الحرب العالمية الثانية، ابتهجت السماء ليلة السبت 1 يونيو/ حزيران بأكثر من عشرين عرضاً ضخماً للألعاب النارية في وقتٍ واحد. حدثٌ جميل ومجاني للعائلات والأصدقاء والأفراد الذين تَصادف وجودهم هناك على رمالِ الشواطئ الخمسة التي وطأتها أقدام الحلفاء قبل ثمانين سنة. فالامتدادُ الطويل لساحلِ نورماندي هو المكان الذي تمكّن فيه أكبر أسطول بري وبحري وجوي على الإطلاق من اختراقِ دفاعات الزعيم النازي الألماني، أدولف هتلر، في أوروبا الغربية وساعد في التعجيل بسقوطه بعد 11 شهراً. إنّها الذكرى المجيدة التي تُرفع لها الأنخاب عالياً، وتصدح لها الحناجر وتهتزّ أوتار الموسيقى بأنغامِ النصر ومباهج السلام.
أمّا الحفل الرّسمي، حفلُ النّخب والقادة، فقد أُقيم يوم الخميس الماضي في السادس من يونيو/ حزيران الساعة الثالثة والنصف على شاطئ أوماها. حضره رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون وقدماء المحاربين، والرئيس الأميركي جو بايدن، وعدد من الملوك والرؤساء الممثلين لدول الحلفاء، باستثناء روسيا تلك التي قد لعب جيش اتحادها السوفييتيّ بالأمس دوراً تاريخياً في دحرِ النازية. إنّها غير مدعوة لسببٍ نعرفه جميعاً؛ فيما تصطف اليوم ألمانيا إلى جانب الحلفاء الجدد، لتلعبَ الأيّام لعبتها كطفلةٍ ترتّبُ بأصابعها العابثة الأعداء والأصدقاء.
كلٌّ أخذ مكانه في الحفل الذي بدا هادئاً، رمزيّاً ومؤثراً أحياناً، بسبب الرسائل التي كتبها بعض الجنود من تلك الفترة التاريخية العصيبة، فقُرئت كالأشعار على المنصّة. حفلٌ خال من أيّ بهرجة، أو استعراض كبير. يرتدي فيه الأطفال قمصاناً بيضاء، في إشارةٍ إلى مستقبلٍ يرفُّ كالحمام، وينشدون مع معزوفة بتهوفن نشيد الفرح على إيقاع فرقة عسكرية. إنّ السلام مرحّب به على هذه الأرض، تقول في نفسك حين تسمع اللحن البيتهوفني وترى القمصان البيضاء، لكن ليس إلى هذه الدرجة؛ إذ سرعان ما ستعيدك الكاميرا وهي تركّز على رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، إلى نارِ حربٍ مشتعلة في طرفِ ثوب أوروبا، والتي تهدّدُ بحرقها مرّة أخرى، وربما تحويلها هذه المرّة إلى رماد، فيما هي ترفع الآن مبتهجة نخب ذكرى الانتصار الكبير!
كان انتحار هتلر قبل أن يدخل الحلفاء غرفة معيشته برصاصة في الجيب، أما انتحار بوتين فسيكون باندحار قارّة، أو سقوط جنسنا بأكمله في هوّة العدم
يفقد المشهد النوستالجي الذي جعل الدموع تذرف أحياناً، صورته الرمادية، ليترنّح الحاضر كسفينة "تايتانيك" من كلمة ماكرون التي أرادها أن تحمل نبرة واثقة: "أمام عودة الحرب إلى القارّة نقول لأوكرانيا لن نترككم". وبالمثل، وبلغةٍ أكثر حدّة يتعهّد ضيفه الكبير، جو بايدن، بأنّ الولايات المتحدة الأميركية في عهده "لن تتخلى" عن أوكرانيا. كما حذر: "إنّ جيرانها سيكونون مهدّدين، وأوروبا كلها ستكون مهدّدة"، ثم يرفع لهجته واصفاً الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين بأنّه "طاغية، عازم على الهيمنة". ولم يترك خطابه دون أن يربط ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية بالصراع الروسي الأوكراني الحالي.
إنها الحرب إذن، تحوم كنسرٍ في الأفق وتتصاعد في لهجةِ الخطابات كما على الأرض، عكس ما يشيعه الأطفال المباركون بحركاتهم اللطيفة ولوحاتهم التعبيرية. قد تكون حرباً شاملة ومدمّرة أضعاف ما شهدته الحرب العالمية الثانية؛ مع ذلك يصرّ كلّ طرف على التشبّث بمواقفه. تبدو كما لو أنّها مشكلة في الجحيم ويصعب حلّها.
يستمر الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وشيئاً فشيئاً يتجاوز الخطوط الحمراء. والإشارة هنا إلى موافقة أوروبية أميركية على تسديدِ الضربات الأوكرانية في الداخل الروسي.
تأكل الحرب هذه الأيّام من خريطةِ أوكرانيا، فالحرب كرٌّ وفرّ، وأمدها قد يطول. وربّما في هذه الإطالة يقفز الحل الذي لا يرضاه الأوروبيون إذا ما جفّ الدعم الأميركي في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. غير ذلك يصعب الخروج من ورطةِ الحرب هذه، أمام إصرار روسيا على ما تعتبره مسألة قومية في هذه القضية الوجودية.
يسود اعتقاد بأنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد أن يلتهم أوكرانيا كلّها ولن يتركها لحلف الناتو، إنّها كعكة روسية محليّة. والأوكران روس أيضاً. هذا ما يوضّحه المقال المطوّل الذي كتبه (بوتين) حين أنكر فيه حق أوكرانيا في الوجود كدولةٍ ذات سيادة، معتبراً أنّ الروس والأوكرانيين كانوا على الدوام "شعباً واحداً".
إنّ السيناريو الأقوى في هذه المعضلة هو حرب استنزاف قد تمتدّ إلى أعوامٍ أخرى. أمّا ثاني أقوى احتمال فهو الأسوأ بالطبع، ويتمثّل في حربٍ عالمية غير تقليدية. أو ربّما احتمال ضربة نووية يائسة في حال هُدّدت روسيا في أمنها وعقيدتها التي يرفعها بوتين شعاراً له. لقد كان انتحار هتلر قبل أن يدخل الحلفاء غرفة معيشته برصاصة في الجيب، أما انتحار بوتين فسيكون باندحار قارّة، أو سقوط جنسنا بأكمله في هوّة العدم.
حتى الآن، لا يُظهر الأوروبيون إمكانيةَ تخليهم عن أوكرانيا. لسنا واثقين من هذه الاستماتة الواثقة، إذ هي في واقع الأمر مشروطة بدعمٍ أميركي. ذلك بالفعل ما يقوّي قدرة بوتين على الأمل، إذ يجد في ذلك إمكانية خروجه من لعبةِ الموت هذه، خروج المنتصر.
لولا أميركا لاكتسحت النّازيّة الغرب كلّه. ترى ماذا تفعل غداً مع بوتين فيما نواياها رهن صندوق الانتخابات؟
ليس ثمّة شيء مؤكّد حتى الآن، لا شيء مؤكّد. إن هي إلا رمية نرد فحسب.