حقير لم يدعُ رفاقه إلى طعام المآتم
(رمضان 2005- إحدى الليالي).
صديقنا أبو مالك الذي يأتي إلى سهرتنا الرمضانية من قرية "أم فصيد" الجبلية حدثنا عن العرس العظيم الذي جرى في قريتهم الليلة البارحة، وسهر الناس من بعد التراويح إلى وقت السحور وهم يدبكون على إيقاع الطبول، وترغلة المزامير. وقال إن المطرب، في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، عمل زفة للعريس وقال لأهله خذوه إلى عروسه، وبعدها الْتَمَّ المدعوون حول مناسف اللحم والأرز والبرغل والفريكة والصنوبر واللوز المقلي بالسمن العربي، واستمروا يأكلون، ويشربون اللبن العيران، حتى حان وقت الإمساك، فحمدوا الله وشربوا دلاء من الماء، وانصرفوا كل في حال سبيله.
توجه أبو مالك ببصره نحو أبي سلوم الذي بدا مستاء من هذا الحديث، وقال له:
- خير أخي أبو سلوم؟ حديثي أزعجك؟
قال أبو سلوم: بالتأكيد أزعجني، أريد أن أعرف لماذا حضراتكم لم تدعونا لحضور هذا العرس البهيج؟ في العرس غناء؟.. نحن نعرف نغني أحسن من صباح فخري ونصري شمس الدين وسميرة توفيق.. فيه رقص؟ من دون يمين أنا أرقص أحسن من فيفي عبدو لما كانت صبية. فيه أكل؟ علي الجيرة أنا آكل أكثر من دابة خيل.
قال أبو مالك: حبيبي أبو سلوم، العرس ليس عرسي أنا.. صاحب العرس واحد غني من ضيعتنا. والمفروض بمن يحضر العرس أن يكون مدعواً، وأنت غير مدعو.
قال أبو سلوم: أنت تغالط نفسك يا معلم أبو مالك.. فالذين يتمسكون بمبدأ العزيمة والدعوة هم عَلِيّة الناس، أصحاب الوجاهة والعز، وأما أنا وأمثالي فنأتي إلى الأعراس والمآتم بصفة (تكملة عدد)، ومن دون عزيمة طبعاً.. لو كنا ننتظر الدعوات والعزائم لبنى العنكبوت على أبواب بيوتنا من قلة الخروج والمغادرة.
ضحك الخال عموري وقال: حكايتك مثل حكاية "أبو حمود الضبع" ورفاقه يوم وفاة الحاج إبراهيم..
عندما يأتي ذكر الحكاية في مجلسنا الرمضاني تذهب أبصار السامرين مباشرة باتجاه الشخص الذي أتى على ذكرها. لذلك قلنا للخال عموري:
- وما هي حكاية أبو حمود الضبع ورفاقه؟
قال: هناك مجموعة من الفقراء المشردين في بلدنا، عددهم يقارب العشرين، هؤلاء ينتشرون في البلدة منذ الصباح، يعرفون أخبارها، وأنوفهم تتصيد أماكن العطاء والبذل والولائم. ولا شك أن أفضل مناسبة بالنسبة إليهم هي أن يموت رجل غني في البلد، ففي مراسم التشييع والإنفاق على روح الميت التي تستمر ثلاثة أيام يشبعون الأكل والشاي والفواكه والحلويات والقهوة المرة، وهم يحضرون الأعراس دون دعوة طبعاً ويدبكون، ثم يأكلون.. ولأن الواحد منهم طفران، عايف رد السلام، فهو، في الأحوال العادية، لا يمتلك أي فائض ليدعو أصدقاءه على غداء أو عشاء.. وفي ذات مرة، اخترع كبيرهم "أبو حمود الضبع" فكرة جهنمية، وهي أنه، إذا سمع أحدُهم المؤذن يعلن عن وفاة رجل ما، فإنه يستطيع أن يذهب إلى رفاقه ويدعوهم إلى الغداء في منزل أهل الميت، بعد العصر، وإذا اعتذر أحد الرفاق عن الحضور يقول له:
- والله ما بيصير، هل ترفض دعوتي وأنا أخوك؟
ومنذ ذلك الحين مشت العادة أن يدعو أحد أفراد المجموعة رفاقه على عرس أو مأتم، بشكل رسمي.. وبعد مرور وقت على الواقعة، وفي أوقات السمر يقولون:
هل تذكرون يوم دعانا أبو زنوبا إلى وليمة اليوم الثالث لوفاة الحاج أحمد؟
فيقولون له: دايم الله. أي والله أبو زنوبا كثر الخير. ما قصر والله.
ولكن أبو زنوبا نفسه تعرض لمقلب تاريخي من أفراد مجموعته نفسها، فيوم توفي الحاج إبراهيم، رحمة الله عليه، أصدر أبو إبراهيم أمره لبقية أفراد الشلة بأن يمتنعوا عن دعوة أبي زنوبا إلى طعام المأتم. سألوه عن السبب فقال لهم:
أبو زنوبا واحد أناني، من مدة مات واحد غني في حارته، واستفرد بالطعام وحده، ولم يعزمنا.
والبادئ أظلم!