حكايات أيام زمان الجميلة
حاول أبو سعيد، خلال هذا الاتصال، أن يأخذ دور المستمع. قال إنه لا يعرف من حكايات "عصر ما قبل التلفزيون" وقصصه سوى القليل، لذلك يريد أن يستزيد مني، باعتباري أكبرَ منه سناً.
قلت: على سيرة الناس المتقدمين بالسن، حينما كنتُ في سن الشباب، كنت أنظر بعين الدهشة عندما أرى رجلاً كبيراً يمشي في السوق، ويتبضع، ويمتلك همة عالية في تأمين حاجيات داره. سبب دهشتي أنني كنت أتصور الرجل المسن عاجزاً، مقعداً، أهله يخدمونه، ويقدمون له ما يحتاج.. وكنا، كذلك، نسمع حكايات عن أشخاص أصيبوا بالخَرَف، الذي حاول البعضُ تلطيفَ اسمه، فيما بعد، فأسموه "الزهايمر"، وأشهرهم، في بلدتنا، ذلك الرجل الملقب "أبو حَمَنْدوش"، الذي يسكن في آخر الحارة الشمالية. ذاكرة هذا الرجل أصبحت خالية تقريباً، وعندما يَسأله أحد عن شيء ما، يُعجزه الجواب، فيضحك، ويكتفي بالضحك، وفي أيامه الأخيرة ارتفعت لديه نسبة النسيان، فصار ينزل إلى السوق، في الصباح، ويشتري ما يلزم له من حوائج، وحينما يريد العودة إلى الدار يتقدم من سائق عربة نقل ثلاثية العجلات (طريزينة)، ويسأله:
- يا عين عمك، هل تعرف دار أبو حَمَنْدوش؟
فإذا قال له: نعم، أعرفها، يضع أغراضه في القسم الخلفي من الطريزينة، ويصعد بجواره، ويطلب منه أن يوصله إلى تلك الدار، وإذا وجد أنه لا يعرفها يتركه ويتجه نحو آخر. وذات مرة، تاه سائق الطريزينة التي تقله، وقال:
- كنت أظن أني أعرف دار المدعو أبو حَمَنْدوش، ولكنني أضعتها، قل لي أنت، هل تعرفها؟ ألم تزر المدعو أبو حَمَنْدوش في داره قبل هذه المرة؟
فضحك وقال له: أنا الزفت المدعو أبو حَمَنْدوش. ولكن، بيني وبينك؟ دائماً أنسى أين تقع دارنا!
- قصة حلوة، ولكن كيف حل سائق الطريزينة المشكلة؟
- أبو حَمَنْدوش هو الذي حلها، طلب منه أن يعيده إلى السوق، ولا بد أن يصادف سائق طريزينة آخر يعرف الدار!
- رائعة. أنا تذكرت حكاية سمعتها من والدي رحمه الله. قال: كان في بلدتنا رجل مرح، وكل الناس يتبادلون معه المزاح. وذات مرة، نصبوا له كميناً، وراقبوا داره حتى خرج منها برفقة زوجته، وسرعان ما أحضروا أدوات البناء، من حجارة وإسمنت وماء، وعمروا حائطاً ضمن إطار باب داره، ثم دهنوا الباب بلون الحيطان المجاورة، وجلسوا ينتظرون عودته في زاوية من الحارة، وعندما عاد من السهرة، رأوه يتأمل المكان، ويقول لزوجته:
- الله أكبر. أين دارنا؟ قبلما نخرج كانت هنا. أين صارت؟
وقبل أن ترد عليه زوجته، المندهشة هي الأخرى من هول المفاجأة، سمع ضحكات رفاقه المتشفية، فأيقن وقتئذ أنهم صنعوا به هذا المقلب الثقيل!
- هذه، يا أبو سعيد، طبيعة عصر ما قبل التلفزيون، ولا سيما في بلادنا ذات الطبيعة الزراعية الفلاحية، وأنا أذكر أنني كنت أمشي، أحياناً بعد العصر، باتجاه مقهى خالي أبو صالح، وتكون الشمس قد مالت للغروب، ونزل الفيء على الرصيف، وجاء صانع المقهى، ومعه النربيش، وبدأ يرشرش الماء ليمنع استثارة الغبار، ثم يأتي خالي أبو صالح، وبعض أصحابه، ويجلسون على نسق، ويبدؤون بتدخين الأراكيل. الأمر الملفت للنظر، في هذه الجلسات، أن الكلام فيها يكون قليلاً، لأن إبعاد مبسم الأركيلة عن الفم من أجل الكلام، يُسبب توقف جريان الدخان في جوفها، ولذلك تجد الحوار موجزاً، مثل حوارات السينما.
- والتلفزيون؟
- لا. الحوارات التلفزيونية فيها شد ومط، لأن المؤلف والمخرج يحاولان إرضاء المنتج بإطالة المشاهد، لكي يربح أكثر، بينما السينما تعتمد اللغة البصرية، والحوارات الموجزة.. المهم، وعلى الرغم من أنني لم أكن أدخن الأركيلة، فقد جلست معهم عدة مرات، وذات مرة، سمعتهم يتبادلون المزاح، والحكايات الفكاهية، فحكى أبو جمعة عن أهل قرية "الكفر"، أنهم يمشون على الطريق العام، ولا يأبهون للسيارات، فتضطر السيارة العابرة لأن تتوقف، وتنتظر الرجل الكفري العابر حتى يخرج من الطريق لتتابع سيرها. وأضاف، نقلاً عن السائق "جَبَرْ" من أهل قرية حربنوش، أنه كان يسوق سيارته في مدينة دمشق، وكان ثمة شبان يمشون في وسط الطريق، فتوقف وسألهم:
- أنتم من الكفر؟
فدهشوا وقالوا له: نعم. من الكفر. ولكن كيف عرفت؟
وكان بين أصحاب خالي أبو صالح رجل من الكفر، أراد أن يرد الصاع لأبو جمعة صاعين، فحكى للحاضرين عن الحاج بدلة (جدي)، أنه رأى في الليل، ضبعاً رابضاً في المقبرة، فنادى رجاله، وأحضروا البواريد، وراحوا يطلقون عليه النار، وفجأة، شاهدوا شيئاً يرتفع، بأكثر من ارتفاع أي ضبع، وسمعوا صوت رجل يستغيث، ويطالبهم بالتوقف عن إطلاق النار، فتوقفوا، وانتظروا حتى جاء الرجل، وأفهمهم أنه راعي غنم، كان يرتدي (فَرْوة)، وقد حل عليه النعاس، فغطى نفسه بالفروة، ونام، وهذا ما خلق الالتباس إذ ظن الحاج بدلة الفروةَ ضبعاً. وبعد ذلك أصبح لقب بلدتنا "أهل الفروة".
- من حسن الحظ أن جدك وصحبه لم يكونوا صيادين ماهرين، لو كانوا كذلك لقتلوا الرجل بغفلتهم.
- نعم. وسمعت، خلال وجودي مع مجموعة خالي أبو صالح، أجمل حكاية سمعتها طوال حياتي. يمكننا أن نختتم بها هذه الجولة من الأحاديث عن عصر ما قبل التلفزيون.
- هاتها.
- أبو أحمد الحزاني، وأبو جمعة، كان بينهما قاسم مشترك، وهو أنهما مولعان بتربية كلاب الصيد، والجميل أنهما يتحدثان عن الكلاب بصفة المذكر العاقل! خلال إحدى جلساتي معهم، سمعت أبو جمعة يقول: يا أبو أحمد، خذ كلابك إلى دائرة البيطرة في إدلب، لكي يلقّحهم الدكتور ضد داء الكَلَب. أنا أخذت كلابي البارحة ولقحتهم.
نظر أبو أحمد إلى أبو جمعة باستخفاف، وقال:
- ماذا تقول؟ آخذهم من القرية إلى إدلب من أجل اللقاح؟ لماذا هذه الشنططة؟
قال أبو جمعة: هي شنططة بالفعل، ولكن ما البديل؟ هل تتركهم بلا تلقيح؟
رد عليه أبو أحمد: لا، ولكنني سآتي بالطبيب إلى القرية على حسابي.
وكانت تلك أول مرة أتدخل في الحديث، قلت متهكماً: إذا تعب الطبيب، وتشنطط، لا مشكلة عن أخينا أبو أحمد، المهم ألا تتعب الكلاب!