حكايات عن الكذب والكذب المضاد

17 فبراير 2019
+ الخط -
تراجع أبو الجود عن أمنياته بأن يكون محتالاً. وبَيَّنَ لنا الأسباب قائلاً إن عمره الآن صار فوق الخمسين، وهذا العمر يمكن أن يُطلق عليه اسم "سن النعيم الاحتيالي"، يعني أن الأخ المحتال المحترم لا بد أن يتعب ويشقى خلال ربع قرن من الزمان في رسم الخطط للإيقاع بالضحايا، والكذب، وحلف الأيمان، وشهادات الزور، والسباب من قبل المظلومين عليه وعلى نسائه، والتضرع إلى الله أن يقصف عمره ويبتليه بأمراض مزمنة (لا يُشفى منها ولا تُميته)، والبصاق في وجهه.. ويحق له أن يركن الآن في بيته، ويتنعم بما جنت يداه من أموال..

وأما أنا، إذا بدأت بممارسة الاحتيال في هذا السن المتأخر، فلا جسمي يتحمل الضرب واللكز، ولا وجهي يتحمل البصاق.. وإذا كانت المادة الأساسية للاحتيال هي الكذب فهذه -بالنسبة إلي- محنة أخرى، لأنني لا أجيد الكذب، وذات مرة أردت أن أكذب وسرعان ما صرت مضحكة بين الموجودين.

قال الأستاذ كمال: عن إذنك لحظة يا أبو الجود. ممكن تحكي لنا كيف كذبت وكيف صرت مضحكة؟
قال: أحكي لكم. لا يوجد شيء في العالم يمنعني من الحكي، ولا سيما بعدما فات أوان تحولي إلى شخص محتال. يا سيدي، يوجد رجل من معارفي يحمل لقب "أبو ندور"، إنسان ظريف جداً يكذب كما لو أنه يتنفس، وهو لا يكذب من أجل تحقيق مصلحة، أو نصب أو احتيال، أبداً، وإنما يكذب على سبيل الهواية.. ومن أكاذيبه المفضلة أن يقول لك، إذا سألته (لوين رايح): والله رايح إلى عيادة طبيب الأسنان، ثم يسرد لك حكاية محبوكة بعناية عن وجع الضرس الذي عانى منه في الليل، وكيف أنه تمضمض بماء الملح، وتناول حبات السيتامول، ولم تسكن آلامه، فخرج من البيت لئلا يتصاعد غيظه فيضرب زوجته والأولاد.. وهكذا حتى تصدق أنت أنه ذاهب إلى طبيب الأسنان، بينما هو ذاهب، في الحقيقة، إلى مصلح الأحذية..

وحكايته مع مصلح الأحذية يرويها لك، في وقت آخر، عندما يكون ذاهباً إلى دكان اللحام، فيقول لك، والله يا خاي وأنا ماشي في الطريق، أحسست بأن قدمي بردت، نظرت فرأيت إصبعي الإبهام قد خرجت إلى الآجق (أي صارت على الخلاء)، وأنا في الزقاق احترت في أمري بين أن أشلح الفردة وأحملها وأتابع طريقي إلى البيت لألبس الحذاء الاحتياطي، وبين أن أذهب إلى دكان "أبو سعيد القندرجي" وأشتري حذاء جديداً، وفي المحصلة اخترت الحل الثاني، وعندما صرت في دكان أبو سعيد وانتقيت حذاء بني اللون، مددت يدي إلى جيبي لأدفع الثمن، فاكتشفتُ أنني قد نسيت المحفظة في البيت، فخجلت، ولكن أبو سعيد قال لي: ولو يا أبو ندور، المحل على حسابك.. ولكنني رفضت أخذ الحذاء الجديد، واستعرت من عنده شحاطة بلاستيكية وأخذت حذائي المفتوق إلى دكان المشقع (مصلح الكنادر)، وتركته عنده، وأنا الآن ذاهب لكي أحضره..

قال العم أبو محمد: يخرب بيته، هادا معلم بالكذب.. وأنت كذبت عليه؟
قال أبو الجود: نعم. كذبت.. وإليك التفاصيل.. يا سيدي مرة كنا ماشين أنا وزوجتي أم الجود، مسرعين، فاستوقفني وقال لي: أهلين أبو الجود. لوين رايح أنت وأختنا أم الجود؟ فقلت له: رايحين نزور بيت ابن عمي أحمد، زوجته مريضة.

قال: عليها العافية إن شاء الله. خير؟ أيش صاير معها؟
فقلت له: شغلة بسيطة، معها التهاب بالبروستات. هنا، وبسرعة كبيرة، انكشفت كذبتي، إذ قال لي أبو ندور: عم تضحك علي يا أبو الجود؟ التهاب البروستات مرض رجالي لا يصيب النساء! هنا أردت أن أصلح الموقف فقلت: أحمد هو المريض، وليس زوجته. فقال: بالله؟ أيش صاير معه؟

قلت: لا أعرف بالضبط، غالباً معه التهابات في المبايض!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...