حكايات من البلد (3)
أخبرت الأصدقاء، في سهرة الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية، أن معظم حكاياتنا، في سهرات مدينة إدلب، كانت تتركز على موضوعات (ثيمات) قليلة: الفقر- الغباء- الكذب- الاحتيال- الأمراض- إضافة إلى تناول سير الشخصيات الفكاهية الشهيرة. وضربت مثلاً بالصديق عبد الكريم الذي اشتهر باسم "أبو المجد".
حنان: وهادا أبو المجد بأي خانة بيتصنَّف؟
أبو المراديس: هوي كان فقير جداً، لكن إذا صنفناه في خانة الفقر منكون عم نظلمه، لأنه متعدد المواهب، وبعتقد إنه أقرب في الشبه من الفنان المصري نجيب الريحاني. وبالمناسبة، في عندنا قرية جبلية قريبة من معرتمصرين اسمها حربنوش. أهل حربنوش في عندهم تشبيه رائع، إذا الواحد منهم بلغ أقصى درجات الفقر بيقول (الفقر ناصب حواليّ دبكة). بمعنى محاصرُه في دائرة مغلقة، ومن جهة ثانية، الفقر لما بيقهره بيكون محتفل وعم يدبك! وأبو المجد كتير أعجب بالتشبيه الحربنوشي، وصار يستخدمه لما حدا بيسأله عن أحواله المادية.
أبو الجود: يعني متلي أنا. من دون يمين أنا الفقر ما اكتفى بمحاصرتي من سبعين سنة لهلق، لكن خَلَّى سلالتي كلها تطلع فقيرة. إذا بيسمح لي أبو المراديس، بدي إحكي سالفة إلها علاقة بالفقر والسلالة.
أبو المراديس: مو بس بسمح لك، إنت إلك أفضلية الكلام في السهرة بشكل دائم.
كمال: يا أبو المراديس أنت لازم تعتر من أبو الجود، لأنك لما جبت سيرة الفقر تعديت ع اختصاصه!
أبو الجود: حلوة وملعوبة يا أستاذ كمال. القصة وما فيها إن نحن، أنا وهالمستورة أم الجود، خلفنا تلات بنات وخمس صبيان، الأول من الصبيان والتاني والتالت والخامس نصب الفقر عليهم دبكة، طلعوا أربع نسخ طبق الأصل عني. لكن الرابع، اللي اسمه "فيصل"، حس بالعطب، وعرف إنه راح يكون متلنا أنا وإخوته، فبلش يفكر شلون يصير زنكين (غني)..
أبو الجود: لما وصلت الشغلة لدفع المصاري قالت لي (لازم نطول بالنا شوي ونصبر، الغايب حجته معه، بكره ما بتشوفه غير فاتح هالباب وداخل ريته يقبرني)!
أبو إبراهيم: بالمناسبة كلمة زنكين تركية. (Zengin).أبو الجود: ولما راح فيصل ع العسكرية، تعرف على واحد أزعر اسمه عقبة، بيشتغل عند واحد شبيح.. ومن حديث لحديث حكى عقبة لفيصل إنه المعلم تبعه بيضرب ضربة وحدة بيقبض منها 150 ألف ليرة.. وهاي ما إلها رسمال، ولا بدها تعب، شوية تهديد وهيمنة بيرضخ الخصم وبيدفع من تم ساكت. فيصل انسطل، لأن بهديكة الأيام كان أكبر مبلغ دخل جيبه هو 140 ليرة، لما سحبوه ع الجيش لميناها من عمامي وخوالي ومن أم الجود، وفي إلي أصدقاء عرفوا بالقصة ساعدونا.
أبو جهاد: الله يقطع الفقر وساعته، كل هالناس على 140 ليرة؟
أبو الجود: أي والله. المهم لما سمع فيصل من عقبة بالـ 150 ألف ليرة اللي بيقبضها الشبيح المعلم بدقيقة واحدة طق عقله. وسأله لعقبة: وإنت؟ ما بيطلع لك منها هَبْشة؟ قال له عقبة:
- معلمنا بياخد 100 ألف ونحن اللي منساعده بيترك لنا الخمسين ألف، أنا بيطلع لي من كل ضربة شي 10 آلاف.
أبو ماهر: والله كويس إنه فيصل ما طق عقله.
أبو الجود: مين قال لك ما طق عقله؟ يوميتها عَلَّق على رفيقه عقبة متل الفقر، ان شافه في المهجع، يغلي له شاي ويضيفه، ويقول له: ما بتشغلوني معكم؟ وإذا كانوا عم يركضوا في الباحة (نظام منضم) يلتفت عليه وهوي عم يعد آح تنين، ويقول له: أح تنين، آح تنين، أنا بعجبك بالاحتيال يا عقبة، الله وكيلك أنا نصاب من الوكالة، يخلي لي عينك يا عقبة، قله لمعلمك يجربني، بس بدي حدا يحمي ظهري، الله وكيلك إذا بيجي عنتر إبن شداد بطريقي بنصب عليه وبشلحه.
أبو ماهر (ضاحكاً): باختصار الولد استقتل.
أبو الجود: نعم. أنا وهالمستورة أم الجود ما كنا منعرف أيش عم يصير.. اللي منعرفه إن فيصل بيجي كل شهر أو شهرين إجازة، بيقعد في القرية أسبوع وبيغادر، وفجأة بطل يجي. ومرة من المرات ضجرتْ أم الجود، وقالت لي (بقي بالي عند هالصبي، الله يخليك روح استفقده). قلتلا: على راسي، هاتي ناوليني خمسين ليرة لحتى أروح لعنده ع القطعة واستفقده.
أم زاهر: وعطتك؟
أبو الجود: لما وصلت الشغلة لدفع المصاري قالت لي (لازم نطول بالنا شوي ونصبر، الغايب حجته معه، بكره ما بتشوفه غير فاتح هالباب وداخل ريته يقبرني)! المهم إنه فيصل في أول إجازة راح مع عقبة لعند الشبيح المعلم. يا سيدي المعلم، على حسب ما عرفنا بعدين، رحب بفيصل، وأبدى استعداده يشغله معه، بس بشرط إنه يدور على مشكلة صايرة هون في محافظة إدلب، ويتفق مع واحد من الطرفين اللي صايرة بيناتهم مشكلة، ويحددوا المبلغ، ويجي لعند "المعلم" ويعطيه الإحداثيات، وبوقتها المعلم بيحل المشكلة وبيقبض المبلغ اللي اتفقوا عليه.. ومن باب التشجيع قال لفيصل إن أول ضربة منضربها سوا راح أعطيك نصف المبلغ إلك!
أبو محمد: والله قصة عجيبة. يعني ابنك اشتغل بالتشبيح فعلاً؟
أبو الجود: طبعاً اشتغل. كان بده يطلع من الفقر اللي ناصب حواليه دبكة بأي وسيلة. المهم، الإجازة اللي بعدها أجا على إدلب، وصار يسأل بعض الناس إنه وين في مشكلة كبيرة بين تنين وما عم تنحل؟ في واحد صار يتمسخر عليه، قال له: أشو يا عين عمك؟ مفكر تشتغل شاهد زور؟ إذا بدك تشتغل هالشغلة روح جَلّد هويتك واقعود على باب القصر العدلي.
فيصل ما بيعرف أشو يعني شاهد زور، بس طقت في إدنه كلمة "القصر العدلي"، وراح قعد ع الباب. ما شاف حدا، ولا استرجى يحكي مع حدا، بعدين دخل لجوه، ولما كان ع الدرج شاف واحد نازل وعم يصرخ، وعم يقول: يلعن أخت هالبلد، بيقولوا في قانون وفي قضاء، أخدنا حكم أكبر من ملحفة اللحاف، وما عم نحسن ننفذه.
لما سمع فيصل هادا الكلام قال لحاله: هادا عز الطلب. ولحق الرجل لبره القصر العدلي، ولما وصل الرجل لسيارته شاف فيصل لاحقه، قال له: نعم؟ قال له فيصل: خيو، أشو ما كانت مشكلتك أنا بحلها.
أبو ماهر: أي؟ وبعدين؟
أبو الجود: بدنا نشرب شاي بالأول، وبعدها منحكي.
(للحكاية تتمة)