حكاية أدهم الفراري عميل الصهيونية
(الجزء الثامن من حكاية المعلم أبو أحمد ورحلته إلى حماه)
ذكرتُ لكم، أيها القراء الأكارم، في الجزء الأول من هذه السيرة، أن المسافة بين إدلب وحماه 100 كيلومتر، يكفي لقطعها ساعة واحدة، أي أن بإمكان أي رجل عنده سيارة حديثة أن يذهب إلى حماه ويرجع إلى إدلب خمس مرات في اليوم، وربما أكثر.. ولكن بعد الثورة، وبفضل براميل ابن حافظ الأسد، وبمساعدة الرجل الغريب المدعو "الجولاني" الذي احتل بلدنا إدلب باسم تنظيم القاعدة، صار السفر بين المدينتين حكاية، وقصة، وملحمة روائية.. وها نحنُ أولاء نكتب الجزء الثامن من السفرة إلى حماه التي خاضها معلم المدرسة أبو أحمد، ولم ننته منها بعد.
استمرت رحلة الذهاب من إدلب إلى حماه، بحسب ما أخبرني أبو أحمد، ست ساعات. الركاب الذين غادروا إدلب في السادسة صباحاً، وصلوا إلى حماة في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، بعدما مروا بتشكيلة الحواجز التي يتبع بعضُها للنظام المجرم، وبعضها الآخر للمجاهدين، ودفعوا لكل واحد من الحواجز المبلغ المعلوم..
المهم، دخل بطل سيرتنا "أبو أحمد" إلى مبنى مديرية التربية في حماه، أجرى معاملة تجديد بطاقة الصراف الآلي لمدة سنة قادمة، وخرج يبحث عن صراف آلي، ليقبض رواتبه المتراكمة، وكان هناك صراف قريب من المديرية، وقف في الطابور ساعة ونصفا، حتى جاء دوره، فوضع البطاقة في الإفريز المخصص للبطاقات آملاً بالخلاص السريع والعودة إلى دياره، ولكن الصراف أعطاه رسالة بأنه قد أصبح خارج الخدمة، بسبب نفاد المال الموجود في داخله.. غادر المكان مسرعاً، وراح يسأل عن صراف آلي آخر، دله أحد المواطنين عليه، فذهب مسرعاً، ووقف حوالي ساعتين، جاء دوره، وقبض المال بنجاح، وذهب راكضاً باتجاه ساحة العاصي حيث يقف الركاب الذين يسافرون إلى إدلب، وتنفس الصعداء عندما رأى ميكروباص قادماً نحوهم، وحدث نفسه بأنه لو اضطر للبيات في حماه فسيكلفه ذلك مالاً كثيراً، بالإضافة إلى أن عياله سيقلقون عليه إذا لم يعد إلى إدلب في اليوم ذاته، كما أخبرهم، وإذا اتصل بهم من جهاز الموبايل وأعلمهم بأنه سيبيت، يقلقون أكثر إذ يعتقدون أنه موقوف عند فرع أمني ما، ولا يستطيع البوح بذلك على الهاتف.
التفت نحو معلمه وقال له: تعال شوف يا سيدي، هذا الميكروباص فيه عسكري فراري من الجيش
قلت لأبو أحمد: يعني، أخيراً، انتهت القصة على سلامة.
ضحك وقال: لا يوجد شيء اسمه (سلامة) في لغتنا نحن السوريين، فحتى لو عدت إلى إدلب، ووصلتُها سالماً، مَن يضمن لي أن أستمر بالعيش يومين آخرين؟ ألم تسمع بمعلم المدرسة الذي دخل اللصوص إلى بيته، وقتلوه هو وزوجته، وسرقوا أساور زوجته التي تزن حوالي 500 غرام؟ وابن عمك (أحمد بدلة)، ألم يقتلوه لكي يسرقوا سيارته؟
قلت: هذه الحكايات، في الواقع، توجع الرأس. عد بنا إذا سمحت إلى سيرة السفر، والحواجز، وأبو رستم الحقير، والمجاهد قاطع الطريق جولاماصا، فهي أكثر طرافة..
قال: معك حق. كان طريق العودة إلى إدلب أكثر خطورة من طريق المجيء إلى حماه بكثير. فسائق الميكروباص الذي أقلنا، أبو فهد، لم يكن ديبلوماسياً مثل أبو خليل الذي أتينا معه، بل بالعكس، كان رجلاً متهوراً، أكثر من مرة كان يعبر الحاجز، ويضطر العناصر لإطلاق النار في الهواء حتى يقف، ويعود، وبدلاً من أن يعتذر لعناصر الحاجز كان يقول لهم بلهجة غير ودودة: ما شفتكم. كنت شارد. أيش صار؟ أكيد ما خربت الدنيا.
وعند دفع الرشاوي كان يشعل سيكارة، ويقول لنا: انزلوا وتفاهموا معهم.
عندما وصلنا إلى أول حاجز، همست له قائلاً: أخي أبو فهد، برأيك كم ندفع لهم؟
فقال: أنا ما لي علاقة. إن شاء الله تصيح لهم موال "يا راكب الحمرا كناطير" مقابل أن يتركوك بحالك. أنت وشطارتك.
ولكن المشكلة الأسوأ التي اعترضتنا في تلك الرحلة العجيبة، هي صعود المدعو أبو كمال، وابنه أدهم معنا في الميكروباص نفسه. وجود أدهم سَوَّد عيشتنا، وجعل رحلتنا تبدأ ولا تنتهي.
قلت: لماذا؟ هل كان أدهم فتى مشاكساً؟ أم مطلوباً للأمن؟ أم..؟
ضحك أبو أحمد وقال: أدهم مشاكس؟ يا رجل، والله طوال الطريق لم يتفوه بكلمة، حتى اعتقدنا، نحن الركاب، أنه أخرس.
قلت: فما هي المشكلة التي حصلت بسببه؟
قال: المشكلة الأساسية أنه شاب. كونك سورياً، بشكل عام، جريمة، وإذا كنت شاباً فالمصيبة أكبر. العدو رقم واحد للنظام المخابراتي الأمني الأسدي، يا أستاذ، هم الشباب. كل دورية كانت تستوقفنا، يتجه أبصار عناصرها تلقائياً إلى أدهم، وتتسع حدقاتهم، ويُنزلونه من السيارة مستغربين، وفرحين في الوقت ذاته، كما لو أنهم عثروا على لقية، أو صيد ثمين. أول حاجز استوقفنا كان للأمن العسكري. شاهد أحدُ عناصره أدهم، فصاح: أهلاً بالفراري!
والتفت نحو معلمه وقال له: تعال شوف يا سيدي، هذا الميكروباص فيه عسكري فراري من الجيش.
وبدأ يلكمه، ويدفعه إلى الأمام، مبربراً بعبارات خطابية فهمنا منها أن الفراري إنسان خائن للوطن، عميل للصهيونية والإمبريالية، داعم للإرهابيين.. المهم يا أبو المراديس، اصفرَّ وجه أبو كمال، ونزل من الميكرو، ومشى باتجاه رئيس الحاجز. بقينا نحن جالسين في أماكننا، حتى عاد ومعه أدهم الذي ارتسمت على وجهه لطعات وكدمات ملونة من أثر الضرب واللكز.
بين الحاجز الأول والثاني فهمنا من أبو كمال مجمل الحكاية. قال إن عنده ثلاثة شبان، الكبير كمال يعمل في تركيا منذ سنوات، والثاني كريم يخدم عسكرية في جنوب دمشق، والثالث هذا أدهم الذي دقه الحماس، في بداية الثورة، وطلع مع رفاقه مظاهرة، وصاح صوتين من قبيل: بدنا حرية، ويلا ارحل يا بشار. ومرت بعد المظاهرة بضعة أيام ترقب، ثم قرع الأوباش بابهم بعد منتصف الليل وأخذوه. أبو كمال كان صاحب محل حلاوة الجبن على طريق الشام، وعنده شقة مؤلفة من أربع غرف وصالون، باع كل شيء عنده، وتفرغ للبحث عن أدهم، ودفع ثلاثة أرباع ما تجمع لديه من مال رشاوى للمخابرات والمتنفذين حتى عرف أين هو، وتمكن من إطلاق سراحه، وقرر أن يدفع الربع الباقي في سبيل أن يصل مع أدهم إلى إدلب سالمين، ثم يسافرا إلى إزمير، ويركبا البحر من هناك إلى أوروبا. وقال: أن نصل إلى أوروبا وما معنا كلنا قرش واحد، أحسن من أن يكون لدي محلات بيع حلاوة الجبن، ومنزل واسع، بينما يرقد ولدي تحت التراب.
(للسيرة تتمة)