حكاية الصناعي سامي صايم الدهر
أبدى أبو ماهر الحموي إعجابه بمقدرتنا نحن أبناء محافظة إدلب على تفريع القصص والحكايات، وكيف أننا نقطع الحكاية التي كنا نرويها، ونضع نقطة على السطر، ونحكي حكاية أو حكايتين أو ثلاثاً، ونرجع إلى المكان الذي وقفنا فيه.
أبو المراديس: أنا من بلدة اسمها معرتمصرين، فيها حكواتية وناس قادرين على التشريق والتغريب في الكلام.. لكنْ، لما سكنت في إدلب اعتباراً من سنة 1980، لاحظت أن أهل مدينة إدلب فيهم حكواتية كبار كتير، من طراز الحاج خيرو عبدللي، والد الفنان والمترجم عبد القادر، إضافة لمحمد نور قطيع، ومحمد طاهر طرشة، الله يرحمهم جميعاً، وكانْ كل واحد منهم عنده طريقة خاصة في الكلام، وأسلوب بيميزه عن غيره.
الناس في إدلب بيقولوا عن الشخص اللي بيستلم الحديث وما بيعطي دور لغيره (رَكّيب)، بمعنى إنه بيركبْ صهوة الحديث وكأنه خَيّال، وهادا تشبيه فني رائع، بيذكرنا بالشاعر المتنبي اللي بيحكي عن ركوب الريح شعرياً، وبيقول:
على قَلَقٍ كأن الريحَ تحتي
أحركُها يميناً أو شمالا.
قال كمال: لا تنسى إنه الأخوين الرحباني عملوا صورة شعرية ما بتقل جمال وروعة عن صورة المتنبي، من خلال الأغنية الفيروزية الرائعة:
بكرة إنته وجاية- راح أزيّن الريحْ
أبو محمد: حديثكم حلو. بس..
كمال: بس رجعونا للحكايات. أبو محمد مشكور لأنه دائماً بيخلينا نرجع لمحل ما وصلنا.
بعد مدة تبين إنه الريس جمال ما عم يحكي الحقيقة، وصار تأميم سنة 1961 الشهير، ولما استلموا البعثيين الحكم بعد سنتين لقوا قصة العدوان على الملكيات الخاصة شغلة كويسة، وصار هالشي نهج دائم عندهم استمر حتى هاي اللحظة
أبو المراديس: راح إثبت لأبو ماهر إني نحن قادرين على العودة للمكان اللي توقفنا عنده بسهولة. يا سيدي، لما أبو الجود حكى عن الإقطاعي المفلس "عزو آغا"، اللي تعرض للتأميم سنة 1964، كان هدفُه الضحك والتنكيت. وبالفعل، كانت الحكاية ظريفة، وقفلتها بارعة. وخاصة لما بيقول "عزو آغا" الفقير المفلس الملفوف بالمَشْلَح وهوي عم يرتجف من البرد لزوجته: إذا نحن الأغوات سقف بيتنا عم ينقّط ويوكف، أشو بيكون وضع عامة الناس الفقراء؟!
أبو الجود: هلق أبو المراديس (ركب) الحديث، ويا ريت ينزل شوي، لأني عندي تتمة لحكاية عزو آغا.
أبو محمد: كرمى لي يا شباب، خَلُّوا أبو الجود يركب الحديث ويسمعنا تتمة الحكاية.
أبو الجود: عزيزة خانم زوجة الآغا المفلس عزو، كان جوابها متل جواب أمي لأبوي. لما أبوي كان يقول نحن بيت عبد المجيد على سن الرمح كانت أمي تقول له (انشالله الرمح بيبعجكم متل سيخ الشاورما)!.. وعزيزة قالت لعزو آغا: ريتك تبلى إنته واللي سَمَّاك آغا! يا رجل إنته طول النهار قاعد في البيت، وأنا عم إطلع وبشوف العالم. علي الطلاق في كل هالمنطقة ما عاد في حدا أفقر منك.. ولسه بتقول نحن آغوات؟!
هذه الحكاية فتحت البابَ للساهرين على مرحلة خطيرة مرت بها بلادنا التي نُكبت بحكم حزب البعث العربي الاشتراكي في الستينيات من القرن الماضي.
أبو المراديس: الحقيقة إنه سورية كان فيها طبقة كبيرة من ملاكي الأراضي اللي بيحملوا لقب (آغوات)، لكن التأميم اللي عملُه حزب البعث حَوَّلهم لطبقة من المناحيس المفاليس اللي بيشر عليهم سقف البيت في الشتي، متل عزو آغا.
كمال: أنا عندي توضيح. قبلما تحل فينا نكبة البعث مرينا بنكبة الوحدة مع مصر الشقيقة. جمال عبد الناصر برأيي هوي رائد العدوان على الملكية الخاصة في العالم العربي. تأميم قناة السويس في الـ56، كان شي مختلف، وممكن نعتبره عمل بطولي، لأن الشركة المالكة للقناة كانت إنكليزية، والتأميم صار لمصلحة الشعب، أما مصادرة الملكيات الخاصة للناس فكانت عبارة عن مصيبة ضربت الاقتصاد السوري ضربة لئيمة. المهم. حضراتكم بتعرفوا إنه جمال عبد الناصر كان يجي بين وقت ووقت ع سورية، وأكتر شي كان يحب يسافر لحلب، لأنه الطريق من الشام لحلب طويل (360 كيلومتر)، وهادا الشي بيشبع نرجسيته برؤية الناس اللي كانوا يتجمعوا ع الطريق العام ويطلعوا يسلموا عليه وبالأصح يتفرجوا عليه. صح هالشي يا عمي أبو محمد؟
أبو محمد: صح. جمال عبد الناصر بهديكة الأيام كان فرجة. واللي يشوفه كان يرجع على ضيعته ويقعد يتباهى بين أهل الضيعة ويقول لصحابه: قسماً بالله شفت جمال عبد الناصر متلماني شايفكم هلق. وجه لوجه!
كمال: نعم. وفي حلب التقى عبد الناصر بالحاج سامي صايم الدهر، اللي كان عنده شركة بتصنع شال الحرير. الحاج سامي كان يصدّر شال الحرير للمملكة العربية السعودية، وصار بهديكه الأيام مليونير. يعني صارت ثروته قريبة من المليون ليرة، في حين أبوه لأبو الجود لما سمع كلمة (ليرة) صار يصفّر حتى طير الحمامات! المهم لما وقف الحاج سامي صايم الدهر أمام عبد الناصر، صافحه، وقال له: يا سيادة الرئيس، سمعنا إنه في تأميم.. أنا بصراحة عم أخطط لتوسيع المعمل تبعي، فإذا بدكم تصادروه لأيش أوسعه؟
فقال له عبد الناصر: لا، تطمن. مفيش تأميم..
وبعد مدة تبين إنه الريس جمال ما عم يحكي الحقيقة، وصار تأميم سنة 1961 الشهير، ولما استلموا البعثيين الحكم بعد سنتين لقوا قصة العدوان على الملكيات الخاصة شغلة كويسة، وصار هالشي نهج دائم عندهم استمر حتى هاي اللحظة.
قال أبو جهاد: أنا بتذكر هديك الأيام منيح. كان التأميم حديث الناس في كل مكان، والحقيقة صارت قصص أليمة، ما بريد نحكي فيها حتى ما تنتزع السهرة.
أبو المراديس: بدنا نحاول نبعد قدر الإمكان عن التنظير والمعلومات النظرية، والقصص المحزنة، وبدنا نبقى ضمن الجانب الاجتماعي. وبهاي المناسبة اسمحوا لي إنهي هادا الجزء من السهرة بحكاية معبرة بطلها الحاج سامي صايم الدهر نفسه. بيقولوا إنه من صغره كان يشتغل مع والده في محله التجاري، وكان يجي على دوامه في وقت الدوام الصباحي بدون أي تأخير، وكانوا التجار في هديكه الأيام يزوجوا ولادهم على بكير بقصد إنه الولد يخلف ولاد يساعدوه في شغله وفي حياته. المهم سامي تزوج وكان عمره 17 سنة.. واللي صار إنه في صباحية عرسه أجا ع المحل تبع أبوه متأخر شي ساعة.
سأله أبوه: ليش تأخرت يا سامي؟
سامي: متلما بتعرف يوب، اليوم صباحية عرسي.
فقال أبوه: يا إبني ما بصير، الإنسان لازم يلتزم بعمله مهما كانت الأسباب!
وكان هادا الدرس من أهم عوامل نجاحه في حياته.. قصدي النجاح اللي قضى عليه جمال عبد الناصر وحزب البعث لما كان في أوجه.