حكاية "خود عني جيتك" (3)
في سهرة الإمتاع والمؤانسة تابع أبو الجود سرد حكاية الأشقاء الأربعة من قرية "الضبعة" القريبة من معرتمصرين؛ مراد ونهاد وفؤاد وعماد من عائلة القندريسي.. وقال إنّ الشقيق الثالث هو "فؤاد" الذي لقبوه (خود عني جيتك)، وقد تعرفنا عليه حينما حضر احتفال خروج "طق مصد" من المحكمة، وأطلق النار من مسدس كان بحوزته، فأصاب امرأة تدعى "أم عبدو" كانت جالسة بين النساء على السطح تزغرد.
قال أبو الجود إنّ "فؤاد" اصطدم مع شقيقه الأكبر أبو هنداوي، لأنّ هذا الأخير استولى على ميراث والدهم، وشرع يتحايل عليهم، ويرفض إعطاءهم حصصهم، وفي إحدى الزيارات كادت الأمور تصل بينهما إلى الضرب، ولكن شقيقيهما الآخرين عماد ونهاد تدخلا لمنع الاشتباك، وصارا يهدئان من غضبهما، وقال عماد لأبو هنداوي:
- أنت أخونا الكبير، إذا واحد منا غلط لازم تستوعبه..
قال فؤاد وهو يضرب بيده على الأرض: أنا ما غلطت.
أبو هنداوي: ما غلطت؟ لكان أنا غلطت؟
عماد: أخي، أنا اللي غلطت، وحقكم كلياتكم على راسي.
نهاد: خلص يا جماعة، ما بدنا نعمل مشكلة.. خيو، هلق ما صار شي، منخلي هالأراضي تحت إشراف أخونا أبو هنداوي، وهوي ع كل حال بيفهم بالزراعة أكتر منا.. وإذا نحن لزمنا مصاري أو قمح أو زيت أو خضار ما بيقصر معنا. صح؟
أبو هنداوي: أكيد صح.. اللي بيلزم لكم بتاخدوه من عيني هاي قبل هاي.
خرجوا من دار أبو هنداوي بعدما تمكّنوا من إسكات فؤاد وجعله يرضخ للأمر الواقع المرير. والخلاصة أنّ الإخوة الذكور الثلاثة تركوا إدارة شؤون الثروة والأراضي لمراد (أبو هنداوي)، وعندما انتهت كافة الأعمال الزراعية، ووصل الأمر إلى وقت جني الموسم، مر فؤاد بشقيقيه وطلب منهما أن يرافقاه لزيارة أبو هنداوي، ومطالبته بحصصهم من الموسم.
عماد: الله يعيننا على هالمهمة الصعبة.
فؤاد: ليش صعبة؟ هادا حقنا.. إذا مناخد حق غيرنا الله لا يسامحنا.
المهم؛ رضخ عماد ونهاد للأمر، وذهبا مع فؤاد وهما متوجسان خيفة من أن ينكر عليهم أبو هنداوي حقهم، فيقع صدام كبير، لأن فؤاد شرس ومراد أكثر شراسة.. وهذا ما حصل بالفعل، فبمجرد ما ذكروا كلمة حصص، نط أبو هنداوي وما حط، وصاح ملء صوته:
- بدكم حصص؟ ليش أنا حارمكم من المصاري ومن الخرجية؟ مو كل واحد منكم بيحتاج مصاري عم يجي لعندي وبياخد على طلبه؟
وبدأ بإلقاء محاضرته المعتادة، منها قوله إنه إنسان قليل الحظ لأن الله خلق له إخوة لا يشبعون، مثل قَمّيل الحَمَّام تضع له الوقود فيحرقها ويطلب المزيد.. انتظره فؤاد حتى انتهى من محاضرته، وخفت الصياح قليلاً، وقال له ببرود شديد:
- خاي أبو هنداوي، أنت راجعت طبيب جراحة عامة من قريب؟
أبو هنداوي: أنا ماني مريض، ليش بدي أراجع طبيب جراحة عامة؟
فؤاد: على قد ما بتلقي محاضرات وبتصرّخ أنا خايف ما يطلع لك فتاقة! روح تعاين ع كل حال، أأمن.
جن أبو هنداوي وهو يسمع هذا الكلام البارد من فؤاد. قال له وهو يفتح عينيه على مداهما وكأنه غير مصدق ما يرى ويسمع:
- عم تتمسخر عليّ يا فؤاد؟
فؤاد: أخي أنا ما عم إتمسخر، الله وكيلك عم بحكي جد، وإنت حر، بتحب تراجع الطبيب منيح، إذا ما حبيت تصطفل. لكن إذا انفتقت ما بيحق لك تقول أخوي فؤاد ما نبهني.
حمل أبو هنداوي فردة الحذاء وقذف بها أخاه فؤاداً الذي تنمر عليه، ووتر أصابع يديه الاثنتين وصار يقول له:
- خود عني جيتك. افْريد وابْعيد ولا تقول أخوي فؤاد أخدني غدر.
وهجم على أبو هنداوي، وصار يلعب معه لعبة التخويف بالأصابع، ولما يوصل لوقت يتمكن منه، كان يضحك ويقول له:
- خود عني جيتك. لا تخاف. ما بدي أقتلك. بدي أخليك عايش حتى كل يوم تموت موتة شكل.
واستطاع الشقيقان عماد ونهاد من إخراج فؤاد إلى الزقاق وهو يصيح (خود عني جيتك)، والناس المارون ينظرون إليه فيقول لهم خود عني جيتك، لحتى تحولت هذه العبارة لقب، واللقب لبسه، وما عاد يفك عنه.
أبو محمد: القصص اللي عم أسمعها في هالسهرة بتخليني أسأل حالي وين مضيت هالعمر؟ بالفعل يا جماعة، المتل اللي بيقول (الناس مخباية بتيابها) صحيح مية بالمية.
كمال: ما فهمت قصدك عمي أبو محمد؟
أبو محمد: أنا بهديكه الأيام كنت أروح بأوقات فراغي على معرتمصرين، وكنت آخد نفس تنباك في قهوة عطا الشيخ أبو صالح، وكان أبو هنداوي اللي عم يحكي عنه أبو الجود يجي ويقعد معنا، ولما نكون عم نأركل أنا كنت أشوفه رجال آدمي وحباب، وبالفعل كان يحكي لنا إنه هوي طول عمره عم يضحي منشان إخوته، بتذكر مرة قال مع إنه أخواتي البنات متزوجات، وكل وحدة قاعدة ومستورة في بيت أهلها، على طول بيجوا لعندي وأنا بعطيهن مصاري ومونة..
أبو الجود: أنا بصراحة ما بعرف شي عنه غير هالقصص اللي سمعتها من صديقي بكار، وبكار على فكرة ما بيكذب أبداً.
أبو المراديس: أهم شي في حكاياتنا هوي الحيادية. نحن منحكي القصة متلما سمعناها، وما في إلنا موقف مسبق من إحدى شخصياتها. وهادا شي على فكرة كويس وعادل.
تابع أبو الجود رواية الحكاية، فقال إن استهزاء فؤاد بخطابات شقيقه أبو هنداوي سبب أولَ اصطدام بينهما، ولكن فؤاد، بعد هذا الصدام، أحس أنه تحرر من الخوف، وصار يشجع شقيقيه وشقيقاته على رفع دعوى قضائية على مراد لتحصيل حقوقهم، وهم لم يطاوعوه، خوفاً من جبروت أبو هنداوي وردود فعله العنيفة، ووقتها عرض عليهم فؤاد فكرة ملخصها أن يضغطوا على أبو هنداوي ضغطاً متواصلاً حتى يطق عقله، يعني أن يصبح مجنوناً، وبعد أن يجن يتقدمون بدعوى قضائية تتضمن عدم أهليته في إدارة الثروة، فيقرر القاضي رفع يده عن الأراضي والحواكير التي تمتلكها العائلة على الشيوع، فيأخذ كل إنسان حقه.
نهاد: أخوك أبو هنداوي بيجنن بلد، شلون نحن بدنا نجننه؟
فؤاد: اتركوا لي الموضوع إلي. بس إذا أنا وقعت لازم توقفوا معي، ما تتركوني لحالي في المعميكة.
قالوا له: اتفقنا.
(للقصة تتمة)