حوار مع يسرا عن الحب والموت (1/4)
حين التقيت بها في ذلك اليوم من أيام شتاء عام 2000، كانت مختلفة عن المرات التي سبق أن رأيتها فيها، ربما لأن خطوات قليلة كانت قد فصلت بينها وبين الموت، بعد أن كشف لها الأطباء أن مجرد ركوب طائرة أو قطار كان كفيلاً بإحداث انفجار قاتل في أذنيها دون أن تعلم.
كان الله رحيماً بها إلى حد أنها لم تجد طريقة لمغادرة العاصمة الفرنسية باريس التي كانت تنوي الذهاب منها إلى جنيف، وتأخرها الإجباري جعلها تذهب إلى الطبيب لفحص آلام أذنيها، ليقول لها الطبيب: "لو تأخرت يوماً آخر عن الحضور والفحص لما ظللت على قيد الحياة".
كنت قد ذهبت يومها إلى الفنانة الكبيرة يسرا لإجراء حوار مع مجلة (لها) اللندنية، وكانت قد قضت قبل لقائنا شهرين كاملين من المرض والانشغال بالفحوصات والأشعة والتحاليل، ومن مغالبة القلق بالحمد لله لأنه أعادها سالمة من على مشارف الموت، لتعود أكثر تمسكاً بالحياة والفن والحب وأكثر إيماناً بالله تعالى ولطفه بها، وحين التقينا في استديو مصر كانت تستعد لعرض فيلم (العاصفة) أولى تجارب خالد يوسف الإخراجية والذي كانت متحمسة له جداً، وكانت أيضاً قد بدأت في تصوير مشاهد مسلسل (أوان الورد) مع المؤلف وحيد حامد والمخرج سمير سيف الذين نجحا في إقناعها بالعودة إلى شاشة التلفزيون بعد غياب سنوات، ولم تكن تعرف أن المسلسل سيثير جدلاً كبيراً حين عرضه، ولا أنه سيحقق نجاحاً كبيراً سيجعلها تحرص على العمل في التلفزيون بانتظام منذ تلك اللحظة خصوصاً بعد أن تغيرت خريطة السينما بشكل دراماتيكي.
كان حواري مع يسرا أول حوار أجريه مع نجمة سينمائية في حياتي الصحفية، مع أنني كنت قد بدأت العمل في الصحافة قبل تسع سنوات، لكنني لم أعمل في الصحافة الفنية إلا بعد إغلاق صحيفة (الدستور) عام 1998، وكانت كل الحوارات التي أجريتها مع نجوم رجال أو مخرجين أو كتاب سيناريو، ولم يكن وراء ذلك قرار ذكوري مني، فقد سعيت من قبل لإجراء حوارين مع الفنانة الكبيرة سعاد حسني والفنانة الكبيرة عبلة كامل، وباءت المحاولتان بالفشل، ولم تسنح فرص أخرى لإجراء حوارات مع النجمات اللواتي أحبهن وهن قليلات على أية حال، لذلك حين طلب مني الصديق الأستاذ محمود سعد حين بدأ استلام عمله كمدير لمكتب مجلة (لها) في القاهرة أن أقوم بعمل حوار مع يسرا التي كانت إحدى نجماتي المفضلات، تحمست لطلبه خصوصاً أن يسرا كانت قد ابتعدت عن الصحافة لفترة في ذلك الوقت، بسبب ما كنت أتصوره خصومة مع الصحفيين بعد قيامها برفع دعاوى قضائية على بعضهم، ثم اكتشفت أن ذلك الابتعاد كان وراءه أيضاً ظروفها المرضية التي كانت قد أخفتها عن الجميع حتى تم شفاؤها على خير.
لم أرغب في تقليب المواجع عليها لكنني أردت أن أتخذ من سيرة المرض وآلامه مدخلاً مختلفاً للتعرف عليها، فسألتها كيف ومن أين استمدت القوة لإخفاء مرضها عن أقرب الناس إليها
كان محمود سعد قد قرأ الحوارات التي قمت بها مع مخرجين وكتاب كبار وكان معجباً بها، وكان قد نشر لي حواري مع الأستاذ عادل إمام عن صداقته بعبد الحليم حافظ، لكنه نبهني قبل أن أحدد مع يسرا موعداً لمقابلتها أن الحوار سينشر في مجلة نسائية لا يبحث جمهورها عن الحوارات الفنية الدسمة التي تقوم بتتبع المشاوير الفنية أو تتحدث عن تفاصيل الأعمال الفنية، بل يبحث عن حوارات تقرّبه إنسانياً من النجم أو النجمة، وقبل أن أقول له إن مشكلتي مع كثير من الحوارات الفنية أنها تنتمي إلى مدرسة "أين ترعرعت سيدتي" التي سخر منها نجيب الريحاني وبديع خيري في فيلمهما الشهير، سبقني بذكر النموذج الذي سخر منه الفيلم وقال إنه يتوقع مني حواراً مختلفاً عن الحياة الشخصية والعاطفية ليسرا، وضرب لي مثلاً بالحوار الذي كنت قد أجريته مع أحمد زكي في صحيفة (الجيل) وتحدث فيه بشكل مختلف وصريح عن قصة حبه مع هالة فؤاد وتجربته مع الطب النفسي والاكتئاب، فشجعني ذلك على أن أتجاسر وأرفع منسوب "الغتاتة" وأنا أسأل يسرا عن حياتها الشخصية ولكن من منطلق الرغبة في الفهم، لا الرغبة في النميمة، ولم تخذلني في الإجابة على أسئلتي، مع أنها كانت متحفظة في البداية على الحديث عن أي شيء يخص حياتها الشخصية، بعد أن نشرت الصحف والمجلات أخباراً كثيرة عن فشل قصة حبها التي كان يفترض أن تكلل بالزواج من خالد صالح سليم، وهي الزيجة التي اكتملت فيما بعد واستمرت حتى الآن.
حين وصلت إلى الاستديو الذي طلبت يسرا أن نلتقي فيه، وجدتها في حالة مزاجية طيبة وتتبادل التعليقات الضاحكة مع عمال الاستديو ومساعدي الإخراج والتصوير، وساعدني أنهم أبلغوها خطئاً بموعد التصوير، فأصبح لديها متسع من الوقت لكي نتحدث فيه، كما ساعدني أكثر أنها ذكرتني بأن استديو مصر كان المكان الذي التقيتها فيه لأول مرة. كان ذلك قبل ثلاث سنوات خلال تصوير فيلم (رسالة إلى الوالي) الذي شاركت في بطولته مع عادل إمام، وقد حكيت من قبل في إحدى حلقات برنامج (الموهوبون في الأرض) قصة المقلب الذي أوقعني فيه عادل إمام حين طلب مني أن أحضر تصوير أحد المشاهد، فما صدقت وذهبت طبعاً، وحين وصلت إلى الاستديو فوجئت بأنني أمام يسرا التي كان يعلم أنني أحبها، وبعد أن عرفني عليها طلب مني أن أجلس حتى ينتهي من تصوير المشهد الذي كان المخرج نادر جلال على وشك البدء في تصويره.
وما إن جلست حتى فوجئت بالأستاذ نادر يطلب من أغلب الموجودين في الاستديو الخروج لأن المشهد الذي سيتم تصويره مشهد صعب، سيقوم فيه الفنان مصطفى متولي بالاعتداء على الفنانة يسرا وشق ملابسها واغتصابها، وحين وقفت لكي أخرج من الاستديو، فوجئت بعادل إمام الذي كانوا قد قاموا بتقييده في عمود خشبي كما يقتضي المشهد، يطلب بصوت عالٍ من الأستاذ نادر أن يتركني أحضر التصوير، لأنني حين قرأت ذلك المشهد في السيناريو، رجوته أن يسمح لي بحضوره لأن من أحلام حياتي أن أشاهد مشهد اغتصاب، وما إن قال عادل إمام هذا الكلام حتى وجدت الاستديو كله يصوب نحوي نظرات تتراوح بين الدهشة والغضب والاحتقار، ولم أكن معنياً وقتها إلا بنظرات يسرا التي سأسقط من نظرها الذي كان قد وقع عليّ قبل دقائق، وحين رأت وجهي وهو ممتقع وأنا أقوم بهز رأسي ويديّ وقدمي نافياً كل ما سمعته، ماتت من الضحك، وقالت لي إنها تعرف أن عادل يقوم بعمل مقلب، لأن السيناريو ليس فيه أصلا مشهد اغتصاب، وأنها تعودت من عادل على هذه المقالب، وكان ذلك المقلب بداية لصداقة لم أكن أتصورها مع يسرا التي كانت ألطف وأجمل وأطيب مما تخيلت، لتستمر هذه الصداقة سنوات طويلة زادت فيها يسرا جمالاً ولطفاً وطيبة، وزادت نجاحاً بشكل سيكشف لك هذا الحوار الذي جرى قبل 21 عاماً أنها كانت تتمناه لكنها لم تكن تتصوره.
كانت يسرا متحمسة في بداية لقائنا للحديث عن فيلم (العاصفة) ومسلسل (أوان الورد)، وشهيتها الفنية المفتوحة لإنجاز أكبر عدد من المشروعات السينمائية والمسرحية، لكننا سرعان ما عدنا للحديث عن تجربة المرض المريرة بعد أن سألتها عن صحة خبر قرأته في مجلة (روز اليوسف) يقول إنها كانت ستصاب بانفجار في المخ، فقالت إن الخبر نشر كلامها خطئاً لأن ما قالته إنها كانت ستصاب بانفجار في الأذن كاد يودي بحياتها وهو ما فهمه كاتب الخبر خطئاً، واتضح مما حكته لي أن علاقتها بالمرض وآلامه أطول مما يتخيل جمهورها المنبهر دائماً بتألقها وحيويتها، فهي مصابة بالربو منذ طفولتها، وقبل عامين كادت تفقد صوتها نهائياً بسبب انفعالها خلال تصوير أحد الأفلام لتقضي بناء على أوامر الأطباء شهرين كاملين دون أن تنطق بكلمة لتتمكن من استعادة صوتها، ثم اكتشفت قبل أشهر أنها مصابة بحساسية مرضية في الدم منذ طفولتها، وقد اكتشفت ذلك بالصدفة حين أصيبت بجرح في رأسها لمجرد أنها هرشته بأظافرها، وبدأت أذنها تنزف، وحين ذهبت إلى الطبيب قال لها إنها كانت حسنة الحظ لأنها لم تركب طائرة أو قطاراً، وأنها ستبدأ علاجاً معقداً قد يستمر لسنوات قبل أن تختفي آثار تلك الحساسية المرضية التي كادت تؤدي لانفجار أذنها وليس مخها كما نشر الخبر الخاطئ الذي أزعجها نشره لأنها لم تكن تحب أن تشرك أحداً في معاناتها، لكنها بعد عودتها إلى مصر أصبحت مدينة لمن نشر الخبر، لأنه جعلها ترى كماً مدهشاً من المحبة والقلق واللهفة على عودتها سالمة إلى مصر، وهو ما ساعدها على نسيان أوجاعها سريعاً والعودة إلى العمل.
لم أرغب في تقليب المواجع عليها لكنني أردت أن أتخذ من سيرة المرض وآلامه مدخلاً مختلفاً للتعرف عليها، فسألتها كيف ومن أين استمدت القوة لإخفاء مرضها عن أقرب الناس إليها طيلة الشهور الماضية فأجابت:
أنا ما باحبش أعمل انعكاس سلبي على الناس، أحب أعمل انعكاس إيجابي على حياتهم، وعارفة إني لو حطيت نفسي في دائرة المرض مش هاخلص، لكن الموضوع مش موضوع قوة، قد ما هو خوف على حبايبي، عشان كده ما سمحتش لحد إنه يعرف أي أخبار عن مرضي طول الشهور اللي فاتت، حتى أمي ربنا يديها الصحة، خفت عليها وعلى أهلي إنهم يعرفوا، ولما كانت ماما تسألني: شكلك تعبانة أو خسّيتي كده ليه أو شكلك مش مبسوطة ليه؟ كنت أقول لها مجهدة من الشغل أو مكتئبة شوية، لإني أخاف عليها وعلى جوزي وعلى القريبين مني إنهم يتفزعوا علي، مالهمش ذنب يتقرفوا بقرفي ويتعبوا بتعبي طالما أقدر أستحمله لوحدي، لكن لما ما قدرتش أصمد لوحدي وبقيت محتاجة لحد يقف جواري قلت لهم. والحقيقة اللي حصل لي كان مذهل، لكن سبحان الله وحياة ديني حسيت إن ربنا ادّاني إشارة إنه بيحميني، يعني مش معقول إنه يتم إلغاء كل رحلات الطيران في اليوم اللي كنت مسافرة فيه، ويقف شغل كل القطارات بسبب الإضراب، دي حماية من ربنا من غير ما يكون لك كإنسان أي إيد فيها.
....
نكمل غداً بإذن الله.