حين حوّلنا الوطن إلى وجهة نظر
صادقنا نحن السوريين الموت بكافة أشكاله لأنّنا آمنا بسماء ثانية، فأدخلونا كوما الانشطار الجمعي، هذا الورم الذي أصاب جسد السوري الممتدّ من أقصاه إلى أقصاه، ففقدنا قدرتنا على الاستجابة لأيّ مؤثر وجداني.
إنّ السوري في الداخل وفي الخارج، وجميع السوريين أيضاً، عُراة من وطن، فاقدون لملامحهم، ويُعانون جميعاً من أزمة الهوية المتشتّتة بين الانتماء والتأقلم، بين الولاء والتسليم، بين المفروض والمرغوب، وهذا ما يفسّر حالة التشظي التي نعيشها، نحن أبناء التراب الواحد والسماوات المتعدّدة في خضم كلّ هذا الشقاء الحاصل من مواربة الحياة.
نحن أمام لحظة الانفجار الأول، السقوط الأول، نقطة الدم الأولى، الصفعة الأولى، الرصاصة الأولى... ولا أحد يستطيع تجاوز ذاكرته، الكل منهزم أمام الذاكرة.
سورية الجميلة التي فقدناها عند أول طلقة في الحنجرة، بلادنا الطيبة هي الماضي الأشدّ إيلاماً لذاكرتنا، بلادنا الطيّبة هي جرحنا الوجودي الذي عجزنا عن رتق جرحه لأننا أضعف من أن نحيا بلا وطن، وهي أيضاً، الذاكرة المتقرحة التي فشلت في تجاوز صدمة اللحظة.
السوري في الداخل يخاف أن يعطش بما يتجاوز ميزانيته، لذلك يلتزم الصمت. والسوري في الخارج يخاف أن يغرق بما يتجاوز إيمانه، لذلك لا يكفّ عن الصراخ. والسوريون جميعاً خائفون ولا يدّعون عكس ذلك... ولذا لم تعد هنالك حياة تتسع للمكابرة والتحايل لإثبات وجهات النظر المتعارضة التي لم تتقاطع يوماً إلا حين أعلن الوطن خرابه.
حقّق السوري انتصاراً حزيناً حين نجا من قارب الموت إلى الضفة الأخرى من العالم الرحيم، هو انتصار العبور الحزين الذي أفقده قدرته على الالتفات إلى أصوات إخوته العالقين عند الحدود، لأنه أضعف من قشّة وأكثر هشاشة من حلم، لأنه لا يملك من أمره شيئاً، إلا خطوة تتهافت نحو الحياة الممكنة في البلاد الغريبة التي تبتسم لنا ابتسامة غريبة.
البلاد هي جرحنا الوجودي الذي عجزنا عن رتق جرحه لأننا أضعف من أن نحيا بلا وطن
السوريون المتناثرون في العالم كشتلة ياسمين أو كشظايا حتى، يعانون جميعاً من حالة الاغتراب والركود الذي يتاخم الجحيم. والسؤال الذي أصبح يتردّد كتعويذة: ما مآل الوطن؟ هذا المكان الجدير بالرثاء؟
لا بد أن نواجه حقيقة أننا خرجنا من محور الأنسنة حين تحوّل جوعنا إلى مداخلة نقدية، وحين تمّ التعامل مع القضية الملحة على أنها مادة قابلة للنقاش، فقدنا هويتنا الإنسانية حين تحوّلت أزمتنا إلى موقف موسمي متغيّر. وحين يمتلك الآخر القدرة على تفسير جوع أخيه وتحليله ونقده وتوصيفه، نفقد حقنا الإنساني أيضاً.
كتب الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو: "الإنسان محصلة لجملة الأمور التي أنجزها". إذن، ما الذي فعله السوري كلّ تلك السنين ليحصل على كلّ هذا القدر من الخراب؟!
في جملة استقراء تداعيات الحرب على الصعيد النفسي، ألتمس حجم الكارثة التي تكمن في القدرة على تصعيد فكرة التمويت وطرحها كحلّ قابل للتداول لما نحن في صدده. وذلك بسبب حالة التحييد الإنساني التي استدعت تكلّس القدرة الاستيعابية للإنسان السوري، محوّلة إياه إلى آلة تمرير للوقت، ما خلق حركة التنافر (التخلّي) عن نقطة الجذب (الانتماء)، بفعل عوامل تستبيح الإنسانية وتنزع عنها صفة القداسة الاجتماعية.
لعل الالتباس الحاصل في أنسنتنا يكمن في المسار المأساوي الذي حوّل القضايا الملحة إلى حدث عارض، ليصبح الخلاص فردياً في مأزق الموت الجمعي، جوعاً أو بؤساً.
نعم، البؤس أحد أشكال الموت الدراجة في ثقافتنا الحالية، يموت الإنسان بؤساً حين يخرج بكينونته من حيّز الإنسانية وتتحوّل قضية جوعه وأمنه وأدنى شروط حياته، إلى مداخلات نقدية أو تتم المقامرة بالرغيف والحلم لنستجدي حياة نوعاً ما، أو بمعنى آخر حياة على وشك أن تكون.
الصراع الداخلي الذي يحياه السوري اليوم، هو أشبه بقدرية محتومة تتناوب بين رعشة أمل ونوبة يأس، بين ما قد يكون وما لن يكون. فنحيا على الاحتمال، فأيّ عدالة تلك الذي تركلنا إلى حافة العالم وتتركنا لمصائرنا؟!
أصبحنا لا نريد حياة عادلة بقدر ما نريد نهاية عادلة، نهاية نجد فيها جدارًا نستند إليه حين تخور قوانا ونتهاوى لنعلن فواتنا... نهاية على شكل وطن نعود إليه بعد أن تأكل الغربة أرواحنا ونهرب منها بقلب متعفّن.. نهاية على هيئة شاهدة قبر ربما.