حَ سيبك للزمن
تابع الأصدقاء الساهرون في منزل أبو جهاد بمدينة إسطنبول مناقشةَ السيرة التي فَتَحَها الأستاذ كمال، وهي سيرة "الزمن". وكان الشرط الأساسي لمتابعة هذا الحديث هو الابتعاد عن الفلسفة، وقال أبو جهاد:
- نحن جايين على سهرة الإمتاع والمؤانسة حتى نْرَيّحْ راسْنا من التفكير، مو جايين نتعب راسنا.
ضحك أبو الجود وقال: اللي بيسمعكْ بيفكرْ إنك طولْ النهارْ عَمْ تحل مسائل رياضيات وفيزيا وكيميا، وبتألف كتب، وبتروح ع الجامعة وبتعطي دروسْ فلسفة للطلاب. أنا مستعد إحلف يمين إنك ما بتستعمل عقلك مرتين في الشهر!
ولئلا يعترض أبو جهاد ويلجأ إلى الهجوم المعاكس، استدرك أبو الجود قائلاً: ترى أنا مو أحسن منك. وصدقوني يا شباب أوقات بحس راسي متل اليقطينة، كبير وبنفس الوقت فاضي!
قال كمال: الشباب عم يمزحوا وبيضحكوا، لاكنهم بنفس الوقت عم يحكوا الحقيقة. برأيي إنه عمر الإنسان في كل أنحاء المعمورة هوي نفسه، ممكن يزيد أو ينقص خمس سنين، لاكن في العالم شعوب بتستغل الوقت، وشعوب بتهدر الوقت. ونحن العرب من النوع التاني. وبالمناسبة نحن مو بس منهدر الوقت منهدر كل ثرواتنا وممتلكاتنا وخيراتنا و..
قاطعه أبو زاهر قائلاً لنا: ديروا بالكم يا شباب، ترى اللي عم يقوله الأستاذ كمال هوي نوع من الفلسفة.
قال كمال: إذا هيك أنا بعتذر. خيو تعالوا نحكي عن الزمن من خلال الغناء. على فكرة كل اللي كتبوا كلمات أغاني أم كلثوم في عندهم هاجس الزمن.
قال أبو الجود: (حَ سيبك للزمن).
قال كمال: صح. هاي وحدة من الأغاني، وإذا بتتذكروا نحن حكينا المرة الماضية عن الأشياء الصعبة المستعصية اللي الناس بيتركوها للزمن والزمن بيحلها. على فكرة: أنا بعتقد إنه ما في أغنية كتبها بيرم التونسي، أو أحمد رامي، أو أحمد شفيق كامل، أو مأمون الشناوي، أو ابراهيم ناجي، أو أحمد فتحي وغنتها السيدة أم كلثوم إلا وفيها حديث عن الزمن، والأعمار. أغنية فكروني مثلاً فيها إشارة لمسألة مهمة جداً وهيي إنه الإنسان عُمْرُه محدودْ ولازم يستغله على أكمل وجه. بتقول مثلاً: وإحنا مش ح نعيش يا روحي مرتين.
قال أبو زاهر: بصراحة؟ الموضوع اللي دَخَّلْنا فيه الأستاذ كمال كويس وممتع. لاكن إذا بدنا نحكي فيه رح ندخل إجباري في عالم الفلسفة.
قال أبو محمد: أنا وأبو الجود وأبو جهاد أكيد ما منحب الفلسفة ولا منفهمها، لاكن الشي اللي عم تحكوه بالنسبة إلنا مفهوم.
قال أبو زاهر: عظيم. إذا كنتوا عم تفهموا بدي قول إنه في بعض أغاني أم كلثوم انطرحت فكرة كتير غريبة، وهيي إنه "الزمن" قابل للشد والمط (يطولوك يا ليل ويقصروك يا ليل). هون أنا بدي إتفلسف شوي وقول: الزمن الطبيعي الأزلي السرمدي ما بيطول ولا بيقصر، والعلماء حسبوا طول الليل والنهار بالثانية وأجزاء الثانية، لاكن العاشق بيشوف الليل طويل لما بيتأخر الحبيب بالمجيء، وبيقصر لما بيلتقي مع الشخص اللي بيحبه.
قال أبو الجود: بالله الجليل كلام أبو زاهر صح. أنا هيك بيصير معي.
قال أبو جهاد: اشو هالحكي؟ يعني حضرتك عشقان وبتعاني من طول الزمن لما بتكون عم تنتظر حبيبتك؟
قال أبو الجود: أنا ما قلت هيك. أنا عم بحكي عن الزمن. لما بكون معزوم على سهرة الإمتاع والمؤانسة، وبكون طفران ومشوب، بشوف الزمن قبلما تبدا السهرة طويل، وأختكم أم الجود حتى تزيد الطين بلة، بتجي وبتبلغني إنه الشتوية صارت ع البواب ونحن ما عندنا مازوت! ولا في عندنا حطب! والطحين خلص، والبرغل، والزيت، والرز، والسمنة، وربطة الخبز باقي فيها رغيفين، والولاد بدهم يروحوا عالمدارس وما معهم خرجية..
قال الأستاذ كمال: أنت في هالحالة لازم تهرب. يعني ممكن تطلع ع الشارع وتتمشى، وبتفرّغ حمولات النحس تبعك، لوقت ما يصير وقت السهرة..
قال أبو الجود: أنا طول عمري عايش في بيت فقير وتعبان ومهرهر، وما فيه حَمَّام، وكل أفراد العيلة بيتحمموا في المطبخ..
قال أبو ابراهيم: عفواً خاي أبو الجود. كنا عم نحكي على حالة الحصار اللي بتتعرض لها حضرتك، وكيف بيطول الزمن قبلما تروح ع السهرة. كيف خطر لك تحكي عن الحمام؟
قال أبو الجود: لما أم الجود بتطبق عليّ الحصار، وأنا بقرر إهرب، بلاقي الباب مقفول، هون بصير بتذلل لأم الجود وبقول لها: منحكي في الموضوع بعدين، خليني إمشي، بتقلي: اقعودْ. الدخلة ع الحمام مو متل الطلعة. وأنا بقلها إنتي غلطانة، أصلاً نحن ما عندنا حمام! المهم، وبلا طول سيرة، بعدما هيي تيأس مني بتفتح الباب وبتقلي روح يا أبو الجود.. حَ سيبك للزمن!