دردشة طويلة مع الأستاذ بشير الديك (5/10)
ـ طيب أستاذ بشير، لما كان النقاد يهاجموك في أفلامك مع نادية الجندي، كان دائماً بيتقال سطر مكرر كده، اللي هو إزاي يا بشير الديك بدل ما بتشتغل مع عاطف الطيب بتشتغل مع نادية الجندي؟
ما كانش ده بيتقال لي بشكل واضح أوي، لإن ما تنساش إن عاطف الطيب ابتدا يتقيم بشكل حقيقي بعد ما مات، بعد ما اتخطف (يتنهد بحزن) يعني عاطف اشتغل في سكة بعيدة عن السكة اللي كنا شغالين فيها، يعني الدنيا على جناح يمامة والبدرون وعمل أفلام عادية، ما هياش وحشة ولا مسيئة، لكن ما تمش التعامل معاها بشكل مختلف إلا لما بدأت أسطورة عاطف بعد خطفه.
ـ أنا قلت لك على حكاية المقارنة بين شغلك مع عاطف ومع غيره، لإني قريتها فيما يتعلق بفيلم (حلق حوش) وأنا لاحظت من كلامك تأثر بالنقد، فحبيت أسألك كنت بتتعامل إزاي مع النقد اللي من النوع ده؟
شوف أنا الكتابة بالنسبة لي هي الأساس دايماً، في عملية الكتابة أنا كنت دايماً مخلص أوي وباشتغل صح أوي، يعني فيلم (حلق حوش) أنا لما باشتغل فيه كنت باقراه أنا وعاطف الطيب ونفطس سوا من الضحك، وكانت لحظة حلوة بالنسبة لي ككاتب إني أدخل السينما أتفرج مع الجمهور على الفيلم ألاقي الناس بتخبّط برجليها الأرض من الضحك.
ـ طبعاً دي متعة مش هيفهم قيمتها إلا اللي شافها بنفسه، والحقيقة الفيلم ده كان أول فيلم يشاور بشكل كبير على محمد هنيدي وعلاء ولي الدين كأبطال مش كممثلي أدوار ثانوية..
والأهم عندي إنه كان نابع من فكرة حقيقية وفيها بعد إنساني، ولدين بؤساء ساكنين جنب سينما صيفي وبيتفرجوا فيها على أفلام ببلاش وقرروا ينفذوا أحد الأفلام، والحقيقة لو كان اتعمل بشكل محكم وزي ما كان هو مكتوب، كان هيبقى هايل فعلاً. علي بدرخان كان نفسه يعمله وكان عايز يعمله زي ما هو مكتوب، تخيل كمان إن توفيق صالح اتحايل عليا عشان ياخده يعمله.
ـ هو فعلاً كان بيتمنى يعمل فيلم كوميدي وقالي ده في حوار معاه..
بالمناسبة، توفيق صالح لما ساب العراق وجه بعد ما عمل فيلم (الأيام الطويلة) كان شاف (سواق الأتوبيس) هناك فأول ما جه مصر دوّر عليا وقالي يالله نعمل فيلم، قلت له يالله بينا، قالي أنا باحلم طول عمري أعمل الرواية دي، واداني رواية (قرية ظالمة) لمحمد كامل حسين، أنا ما كنتش قريتها وتصورت إنها قرية زي اللي كتب عنها محمد حسين هيكل في زينب، المهم قريتها فقلت يا نهار إسود ده موضوع رهيب، محاكمة السيد المسيح وصلبه وشغلانة، قلت له عظيم يا تيفه وهايل بس هل هيوافقوا على ده، هل هيتوافق على تصوير صلب المسيح هنا في مصر، قالي بص مالكش دعوة اشتغل بس، قلت له وده مين اللي هينتجه، قالي عندي أصدقاء هيساعدونا ننتجه في الجزائر وفرنسا وحاجات كده، قلت له والله يا تيفه الموضوع صعب جداً بس مغري جداً، قالي طب تشتغله، قلت له موافق يالله بينا، سألني طيب تاخد كام، قلت له مش عاوز آخد فلوس إلا لما يبقى عندك منتجين يعملوه، لكن دلوقتي لأ.
هذا الموضوع يا بلال خلاني قريت كتب بجنون، وخلانا ترجمنا كتاب كان بيتكلم عن أورشليم في عهد السيد المسيح، أسماء الشوارع والمهن والحرف وكل التفاصيل، واشتغلت في الموضوع بحب ومن غير مليم. زي ما باقولك الحكاية بالنسبة لي هي القصة، لو في قصة حبيتها أشتغلها مع أي حد، المهم وأنا باشتغل كان عندي مشكلة إزاي أحكي الموضوع ده في مجتمع غالبيته مسلمين، طيب وإيه المبرر إني أحكي الحدوتة دي دلوقتي بالتحديد، وقعدت أقرا بريخت كاملا ومسرحياته ونظرياته الدرامية على أمل أمسك سكة أحكي من خلالها، وفي الآخر خالص وده خد شهور طويلة وأنا متفرغ تماماً وباعتذر عن مشاريع تانية بتتعرض علي في السوق، في الآخر استقريت إني هاعمل العمل زي ما اتحكى في الرواية بالضبط، وتبدو المسألة كما لو إنها في ضحك على الجمهور في الأول ومحايلة ليه، وبعدين نخش على العالم الساحر المرعب اللي قدمته الرواية، وكتبت معالجة في حوالي أربعين صفحة خلاص، ورحت لتوفيق صالح في بيته على النيل جنب كوبري عباس، إيه الموضوع؟ قلت له بص يا تيفه أنا عملت كذا كذا، تعال بقى عشان نقعد نقرا، قريت له أول صفحتين، وقّفني وقالي طيب أسألك سؤال بس هو الرقابة ولا الأزهر هيوافقوا على ده؟ قلت له باستغراب: نعم! قالي أنا باسأل سؤال يعني، واتضح لي إنه مش هيعرف يتصرف مع الرقابة والأزهر، قمت قافل الورق وقلت له بص يا تيفه إنت كان عندك مشروع عن شغل لنجيب محفوظ، كان مدي لك رواية عشان تعملها يعني فما تيجي نشتغل فيها، قالي ليه بتقول كده، قلت له لإن الكلام اللي بتقوله أنا قلتهولك من أول يوم وقلت لي الحتة دي مالكش دعوة بيها.
زعلت من عاطف الله يرحمه وزعلت من مدحت الشريف منتج الفيلم، لإنهم لما جابوا لي السيناريو عشان أعيد كتابته، قالوا لي اشتغل انت ومالكش دعوة بمصطفى محرم، احنا هنتفاهم معاه، وبعدين اكتشفت إنهم ما عملوش ده، وأجلوا الأزمة، فزعلت
ـ أحبطك إنه ما طلعش عنده تصور للي ممكن يتعمل بالفعل؟
أنا حسيت بعد فترة إنه عاوز يبقى شهيد، طول الوقت يبقى شهيد، وأنا مرة قلتها له واحنا جايين من سفرية لاسماعيلية، ووقفت العربية على جنب وقلت له يا توفيق إنت طول الوقت عاوز تبقى شهيد وعايز تبين إن الناس أخطأوا في حقك وعملوا كذا وكذا، لإنه كان بيقول لي إنت ضيعت مني موضوع فعصّبني وقلت له الكلام ده، الله يرحمه.
ـ لكن ما عملتوش مشروع رواية لنجيب محفوظ؟
(بانفعال) لا طبعاً ما عملش حاجة ما عملش حاجة.
ـ طيب بالمناسبة عايز اسألك هل كان ليك تجربة مع يوسف شاهين حتى لو لم تكتمل؟
جو كان قالي مرة أيام اعتصام الفنانين والإضراب عن الطعام في النقابة، كان جاب لنا فيلم (عودة الإبن الضال) وقعدنا نتفرج عليه مع بعض، كلنا المعتصمين والمضربين عن الطعام، وبعد ما خلص الفيلم كلمته عنه بحماس وقلت له ده أكمل فيلم إنت عملته وقلت كلام بمحبة شديدة لدرجة إنه بكى من التأثر بكلامي، وقالي بعدها إحنا مش هنشتغل مع بعض؟ قلت له صعب يا جو، إنت يوسف شاهين اللي بيخش جواك بيطلع الناحية التانية يوسف شاهين وأنا ما باحبش أبقى حد غيري أنا يعني، راح قالي ديك أمك على ديك أم الشيوعيين اللي زيك (يضحك) يا عم أنا مش شيوعي والله، باكلمك بصدق وبمحبة ليك كفنان كبير.
ـ من الملاحظات اللي استوقفتني في شغلك، عالم مستشفى الأمراض العقلية أو الموريستان طبقاً لتسميته الشعبية القديمة، العالم ده إنت اشتغلت عليه في كذا عمل، فيلم أيام الغضب مع منير راضي، وفيلم جبر الخواطر مع عاطف الطيب واللي كان آخر أفلامه، وأعتقد مريت عليه في أعمال تانية... بس العملين دول داروا بالكامل جوه المستشفى، كنت عايز أسألك عن التجربة دي؟
هو طبعاً مستشفى الأمراض العقلية قادر إنه يحملك دلالات كتيرة، وعالم غني درامياً، علاقتي بالعالم ده بدأت مع الفيلم الأول بتاع منير راضي، وفاكر إني قريت حادثة منشورة عن واحد رجع لقى مراته متجوزة عليه وواخدة الشقة بتاعته وهو عمال يشتغل ويبعت لها فلوس بقى له سنين، ففكرت أعمل الحادثة فيلم وقلت هاوديه مستشفى الأمراض العقلية لإنه لازم يكون اتجنن، بس قررت إني أدرس المستشفى وعالمها، ورحت قعدت فيها أذاكرها، وكان معايا مرشداً ودليلاً صديقنا الجميل الدكتور حسين عبد القادر الله يمسيه بالخير، شخصية ظريفة جداً، ومن الحاجات اللي أفتكرها له إن ليه لازمة إنه يقول كلمات معينة تلات مرات، يعني مثلاً يقول لك وقد كان وقد كان وقد كان... المهم خدني الدكتور حسين هناك وقعدت هناك مع ناس كان بيعمل عليهم دراسات، وبقيت متردد بشكل منتظم على العنبر اللي بيشتغل فيه، واتصاحبت على بعضهم وعرفت حواديتهم وبدأت أنسج منها الفيلم.
ـ يعني كان خلق كامل ليك هذا العالم بعكس فيلم (جبر الخواطر) اللي كان معتمد على قصة لعبد الفتاح رزق، واللي أثير جدل حواليه بعد رحيل عاطف الطيب المفاجئ أو خطفه حسب تعبيرك، هل الفيلم طلع زي ما إنت عايز؟
لأ طبعاً، كان ناقص كتير، ناقص الجانب الروحي اللي كان مكتوب في السيناريو، لإن جزء منه ما اتصورش وجزء تاني ما اتعملوش مؤثرات effects تطلعه بشكل مضبوط، عشان تقدر تعبر بشكل سينمائي مثلاً عن الطيور المربوطة اللي بتحاول تطير بس القيود بتمنعها من الطيران، ده للأسف ما طلعش بشكل يخلي المشاهد يتفاعل مع المعنى.
ـ هو عاطف الطيب برضه عدى على عالم الموريستان بس بشكل كوميدي في فيلم (الدنيا على جناح يمامة) مع وحيد حامد، لكن هنا في (جبر الخواطر) كنت تحس إن في رغبة إنه يقدم شيئ مختلف عن كل شغله السابق، هل ده كان تعبير عن إحساسه بإنه محاصر في منطقة السينما الواقعية؟
ما كانش ده اللي بنفكر فيه، كنا بنفكر إننا نعمل عمل فيه سِنّة جنون كده، وفيه تعبير فلسفي عن أزمات الإنسان.
ـ يمكن أنا نسيت إنه حاول يعمل ده قبل كده في (قلب الليل) مع محسن زايد عن قصة لنجيب محفوظ؟
حاول يعمل ده آه، لكن الموضوع ما ساعدوش أوي، أقصد الموضوع نفسه بتاع نجيب محفوظ، وطبعاً شغل نجيب محفوظ كله محمل بالرموز والدلالات، لكن بيبقى صعب إنك تعمل ده لأسباب فنية ورقابية، يعني فاكر لما أشرف فهمي قالي إنه بيعمل مع مصطفى محرم فيلم عن قصة (الشيطان يعظ)، قعدت أكلمه عن الرموز اللي نجيب محفوظ يقصدها من شخصية الديناري والشخص اللي أرسله برسالة وتمرده عليه، وقلت له لازم تعملها إنت ومصطفى بالروح دي، فطبعاً ضحك وقال لي إن شاء الله، لإن مجرد محاولة تقديم التفسير ده سينمائياً هتكون مستحيلة طبعاً.
ـ بما إنك جبت سيرة الأستاذ مصطفى محرم، لازم عشان التوثيق أجيب سيرة فيلم (الهروب) اللي هو واحد من أهم وأجمل أفلام السينما المصرية، وأهم وأجمل أفلام عاطف الطيب، وأنا فاكر إني أول مرة قابلتك فيها سنة 97 بصحبة الأساتذة الكبار صلاح السعدني ومحسن زايد وفاروق الفيشاوي ومحمود الجندي سألتك عن الموضوع ده اللي كان وقتها سر الوسط الفني بيتداوله في الجلسات والقعدات، وإنت كنت متحرج جداً من الكلام عن الموضوع وقلت لي إنك ما تحبش تتكلم عنه، لكن من ساعة ذلك اللقاء، الموضوع ما بقاش سر، واتنشر في حتت كتير، لدرجة إنك جت سيرته في كتاب توثيقي اتعمل عنك. وبرضه قاله عبد العزيز مخيون في برنامج أظن مع هالة سرحان أو حد كده وأثار ضجة كبيرة. طيب سؤالي بما إنك أعدت كتابة السيناريو كاملاً، ليه ما رضيتش تحط اسمك على الفيلم مع إن عاطف الطيب طلب منك ده؟
لإني زعلت من عاطف الله يرحمه وزعلت من مدحت الشريف منتج الفيلم، لإنهم لما جابوا لي السيناريو عشان أعيد كتابته، قالوا لي اشتغل إنت ومالكش دعوة بمصطفى محرم، إحنا هنتفاهم معاه، وبعدين اكتشفت إنهم ما عملوش ده، وأجلوا الأزمة، فزعلت وركبت دماغي ساعتها، وقلت يا عاطف لا خلاص ما تحطش اسمي، وانسى الكلام في الموضوع ده، وعاطف تأثر جداً بموقفي وحاول يغيره لكني أصريت، والحقيقة ندمت اليومين دول بس على القرار ده بس مش قبل كده، لإني لسه شايف الفيلم من قريّب، وانبهرت، إيه ده، إيه الاتساع ده؟ إيه التنوع اللي فيه ده؟ إيه المعنى المدهش ده، وإزاي قدرنا نعمل خلق للبطل الشعبي بالشكل ده؟ فندمت الحقيقة على قراري.
...
نكمل غداً بإذن الله.