دكتوراه بمرتبة شرف للاعب ورق
كان صديقنا الراحل، الأديب تاج الدين الموسى، من أكثر الكتّاب السوريين براعة في مجال السخرية.. حكى، في إحدى قصصه، عن "هوجة العرب" التي حصلت في التسعينيات، بعدما انفرط عقد الاتحاد السوفييتي، وبدأ الشباب (تجارُ الأزمات، ولاعبو الوقت الضائع)، في بعض الدول الفارطة، يتاجرون بالشهادات العلمية، وبالأخص الدكتوراه..
وقتئذ أخذت تجري في سورية التي يحكمها حافظ الأسد أحداث وقصص طريفة للغاية. صار المسؤولون البعثيون، عندما يلتقي اثنان منهم أو أكثر في مكان عام أو خاص، يتبادلون الأفكار حول هذه المسألة. أحدهم يسأل: يا أخي، ما الذي يمنع من أن يحصل الواحدُ منا على شهادة دكتوراه، طالما أنها صارت تباع بالمصاري؟ يعني ما عاد يلزمها دراسة وتعتير وسهر، وتورم جفون..
ويرد عليه آخر: نعم سيدي، الحق معك، وتصديقاً لكلامك أنا، بفضل قائدنا الكبير حافظ الأسد، لم يعد ينقصني شيء، الحمد لله، عندي وظيفة حلوة، وراتب مبحبح، ودخل براني، وسيارات، وحَوِّيصة، ونسوان، ومكتب طوال النهار لا يفضى؛ الداخل لعندي داخل، والطالع من عندي طالع، ومع أن أولادي نجحوا في البكلورية (تشحيط) أرسلتهم بعثات إلى أحسن الجامعات الأوروبية، وكلها سنتان أو ثلاث سنوات ويرجعون حاملين شهادات أكبر من ملحفة اللحاف، وعندي فيلا يلعب في داخلها الخَيَّال، مجهزة من مجاميعه، وحديقة، وملعب تنس، ومسبح، ومزرعة، وشوية دولارات في البنك، بقى وين المشكلة إذا بصير دَكتور؟
(بالمناسبة، معظمهم يلفظون كلمة "دكتور" بفتح الدال)!
وبعدما اقتنع الجميع بوجاهة هذه الفكرة، صار السباق باتجاه السماسرة، بائعي الدكتوراهات، يجري على قدم وساق، وما هي إلا شهور قليلة حتى أصبح من النادر أن تلتقي في سورية بإمَّعة من هاتيك الإمَّعَات لا يوجد قبل اسمه لقب (دَكتور).
ضحك الضابط باستهزاء وقال له: على آخر الزمان صار هادا التافه المهرهر يقبل ناس ويرفض ناس؟ انتظر لأفرجيك أيش بدي أعمل فيه
وهنا نأتي إلى قصة المرحوم تاج الدين الموسى التي تتحدث عن شخص عادي، كان يسهر مع شلة مسؤولين من أهل منطقة ريفية، في منزل أحدهم، يومياً، ويلعبون بورق الشدة، وفي تلك الأثناء كان يغيب أحد اللعيبة أسبوعاً أو عشرة أيام، دون أن يُعلم الآخرين بأسباب غيابه، ويأتي بعدها فيلاقيه الرفاق ملهوفين، مستفسرين عن أسباب هذه الغيبة، فيفاجؤون أنه عائد بشهادة دكتوراه في الاختصاص الفلاني، من إحدى الدول المنفرطة من عقد الاتحاد السوفييتي، وهكذا حتى بقي الشخص العادي الوحيد بينهم بلا شهادة دكتوراه، وأصبحوا يتعاملون معه باحتقار، حتى إنه تركهم، وفكر أن يشتري دكتوراه في "لعبة الطرنيب"..
وكان عندنا رجل من إحدى المدن البعيدة عن العاصمة، بدأ حياته، بعد تخرجه من الجامعة، بكتابة بعض النصوص الأدبية، وكانت نصوصه، للأمانة، جيدة، ولكنه، بمجرد ما أصدر أول كتاب، وصار اسمه معروفاً ضمن نطاق ضيق، ألقى نفسه على المناصب مثل القتيل.. صار يتابع أخبار التعيينات كما لو أنه رادار. فرع الحزب في منطقته أراد أن يعين أميناً للفرقة الحزبية، رشح نفسه، صارت انتخابات للشعبة، رشح نفسه.. أحدثوا في دمشق اتحاد الكتاب العرب، انخرط فيه، استورد حافظ الأسد منظمة الطلائع من كوريا الشمالية، زق نفسه في الطلائع وصار يلبس الفولار ويصفق صفقة طلائعية، وقبلها كان قد انتسب إلى الشبيبة، وصار، كذلك، عضواً في اتحاد الطلبة، وعندما تقدم بطلب انتساب إلى الاتحاد النسائي، ابتسمت الرفيقات وقلن له: يا رفيق نحن نسوان! قال لهن: نعم، أعرف، ولكنني مؤيد لقضيتكن، فاعتبرنني عضو شرف.. هذا الرجل الذي كنا نتفشكل به (أي نتعثر به) حيثما مشينا في البلاد السورية، هجر الكتابة منذ زمن طويل، لأنه، من كثرة المناصب، لم يعد يعثر على وقت يحك فيه رأسه، ولكنه، بمجرد ما رأى الرفاق البعثيين حاملين أحذيتهم تحت آباطهم وراكضين باتجاه جورجيا وقرغيزيا ولتوانيا ومولدوفيا، وعائدين من هناك بشهادات دكتوراه أكبر من (الحصيرة الطنعشاوية)، هفت نفسه على العلم، فسجل على دكتوراه، واشترى واحدة في النقد الأدبي، وكانت هذه الدكتوراه ضرورية جداً، لأن البلاد، في هذه الفترة، شهدت تطوراً جديداً، فالمناصب الرسمية، في السابق، كانت لها شروط متسلسلة، بحسب الأهمية، وهي: أولاً، أن يكون المرشح للمنصب بعثياً، ثانياً، موالياً لنظام حافظ الأسد، ومتعاوناً مع جهة أمنية أو أكثر، ثالثاً، لا يوجد في أسرته إخوان مسلمون، أو أحد منتسب لحزب العمل الشيوعي، أو المكتب السياسي (رياض الترك)، أو بعث العراق، رابعاً، أن يكون جامعياً.. وفي فترة التسعينيات بقيت الشروط الثلاثة الأولى على حالها، وتغير الشرط الرابع، أصبح المسؤولون يفضلون تعيين (الدَكتور) على الخريج الجامعي العادي.
ثمة حكاية طريفة رواها لي الراحل تاج عن هذا الدكتور الزئبقي. قال لي إنه، في إحدى الفترات، كان عضواً في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، وكان يتقصد الحيلولة دون انتساب الكتاب الجيدين إلى الاتحاد.. وكان الكاتب (جيم لام) قد تقدم بطلب انتساب للاتحاد، ورُفض بسبب وقوف الدَكتور المذكور ضده.
وفي يوم من الأيام راح (جيم لام) يسهر في مكان مختص بالترفيه عن الأنفس. وبالمصادفة كان هناك ضابط مخابرات يمرح مع مجموعة من الرجال والنساء.. وفي آخر السهرة لاحظ ضابط المخابرات أن (جيم لام) مهموم حزين. طلب منه أن يأتي وينضم إليهم. ففعل.
قال الضابط: ما بك يا أخي؟ من أول السهرة وأنت صافن.
أخبره (جيم لام) بأن الدكتور الفلاني رفض قبوله في اتحاد الكتاب.
ضحك الضابط باستهزاء وقال له: على آخر الزمان صار هادا التافه المهرهر يقبل ناس ويرفض ناس؟ انتظر لأفرجيك أيش بدي أعمل فيه.
وطلب من النادل أن يعطيه الهاتف اللاسلكي. اتصل بالدكتور، مع أن الوقت متأخر جداً من الليل، وقال له: شو ولاك دَكتور؟ انزعجت لأني فيقتك؟ أي تضرب في شكلك. اسماع ولاه، هذا الكاتب (جيم لام) رح يجي بكرة عَ الاتحاد، وبده يلاقي قرار قبوله في الاتحاد صادر وموقع منك ومن هداكا الـ.. (وذكر له اسم رئيس الاتحاد)..
وأغلق الخط.
وفي اليوم التالي نفذ الأمر.