دمار باسم السلام والحرب النفسية على العراق
إن أي صراع إنساني ينبثق إلى الوجود، يكون ضمن نسيج أيديولوجي معين. يعني أن فكرة الصراع منبعها الفكر المتجذر في أصول المجتمع، والتي عليها يقوم ومنها يُبعَث إلى الحياة، ومن هنا نفهم أنه وعلى مدار التاريخ كانت كل حرب من الحروب لها صبغتها الخاصة المتميزة في شكلها ومنبعها ونتائجها، وإن بدت الحروب مجرد أسلحة، إلا أن مفهوماً مستحدثاً للحرب قد ظهر، ذا أصل نفسي وسيكولوجي يدعى بالحرب النفسية، فما هذا النوع من الحروب؟ وما منبعه؟ وما الحرب النفسية العراقية؟
لطالما كان الاستعمار النابع من أسس غير مضبوطة ومبهمة، استعمار دمار وخراب وتطهير، سواء أكان تطهير أعراق أو أفكار، فهو في الحالتين انتهاك للحضارات المستعمرة، فكان لا بد للمستعمر الماكر أن يعلل مكره حتى ينهب بدون مقاومة، بل ومع تصفيق وتهليل، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى التأسيس لكل رصاصة قبل أن تطلق وتقتل، الحاجة إلى قلب الحقائق وعكس الاتجاهات.
وعلى هذا الأساس ظهر مفهوم الحرب النفسية، قد يظهر للسامع أنه لا حاجة لأن نسمي هذه العملية التحضيرية (الحرب النفسية) حرباً بمعنى الكلمة، فالعملية لا تبدو بهذه الصعوبة وبهذا التأثير العظيم، إلا أن القرن الماضي والحالي لهما رأي مختلف، فقد أضحى التحرك النفسي والدعائي اليوم عالماً منفصلاً يتطور ويتماشى مع ما يؤول إليه الإعلام ووسائله من التطور، بل إن التحرك بات يمتلك فلسفته المستقلة تبعاً لأنموذج التعامل النفسي، كما كانت فلسفة "بافلوف" في النظرية السوفييتية، وفرويد في الدعاية النازية، ثم فلسفة جون ديوي التي هيمنت في العمق الأميركي.
الحرب النفسية التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي وإن لم يكن قبل ذلك، كانت من الحملات الأشد قسوة في تاريخ الدعاية النفسية، فلم يسبق أن ترى مثل هذا الهجوم وهذا الكم من العدوانية على شاشات التلفاز أو في الإذاعات المحلية الأميركية والدولية، مصبوبة كلها على الدولة ونظامها من دولة أخرى، إضافة إلى أن هذه الحملة رغم أنها مكثفة وشديدة فإنها لم تنفجر دفعة واحدة، وإنما كانت مسألة وقت وفرز لمختلف الأوراق والقضايا التي بإمكان الولايات المتحدة أن تستخدمها، وكأنك تنخر في النظام وفي عمق المجتمع، ولكن بكل تدرج وخفة يد.
وكأن هذه الحملة لم تكن إلا إعداداً لغزو العراق الذي حصل عام ألفين وثلاثة وهو ما اتضح فعلاً، إن هذه المؤشرات والدلالات والأساليب، وهذا الإعداد الهادئ، لم يأتِ من فراغ وإنما أتت ثماره الفعالة، بعدما أيقن الأميركي وإلى جانبه البريطاني، أن مسألة الغزو أصبحت ممكنة التحقيق.
إن احتلال العراق بلا أي شك، كان مأساة حقيقية انعكست ليس فقط على النظام العراقي والعراقيين وحسب، وإنما كان هجوماً حقيقياً على المنطقة العربية وهويتها
كما ذكرنا سابقاً، فإن فلسفة ديوي والتي انطلقت في عمق الفكر الأميركي وتصوراته كانت وبالتأكيد لها دور في توجيه هذه الحرب النفسية، والتعامل المناسب مع أهداف هذه الحرب، فنظرية ديوي والتي تسعى دائماً إلى إبراز الهوية والصورة الأميركية على أنها الصورة المرجوة، وتثقيف الأفراد بالثقافة الأميركية، والانبهار بالتجربة الأميركية والنموذج الأميركي وولاء الفرد إلى أميركا ونمطها ومناهجها وغير ذلك. كله انعكس على حربهم هذه وأدواتها، والسيطرة على العقلية العربية والعبث بانتماءاتها.
هذه الحرب وأدواتها اتصفت بتطويع بعض القيادات العربية، وخصوصاً في منطقة الخليج العربي، من خلال غرس القناعة بالنظام الأميركي، وبأسلوب حياة هذا المجتمع ونسيجه الأيديولوجي، وأنه هو الصورة المثلى والأنجح، إضافة إلى فكرة "مجتمع الرفاهية" والمجتمعات الاستهلاكية وغير ذلك، وكل هذا قد نجح بعملية "التسميم السياسي"، كما تسميها الدكتورة حميدة سميسم في كتابها "الحرب النفسية".
إضافة إلى عملهم على إظهار الفكر النهضوي العربي على أنه رافض لأشكال التقدم والتطور، وأن النظم السياسية العربية (وإلى جانبها الإسلامية)، لا تتوافق مع مقتضيات العصر وتأملاته، تلك التي يرسمها النظام الأميركي للعالم، وليس ما يريده العالم بالضرورة، ولكن وكما ذكرنا فإن هذا النوع من الحروب مصبوب على المجتمع بحد ذاته بمعنى أنه يخاطب الشعب بأطيافه وتوجهاته كافة، والذي بالتالي لن يكون مميزاً بين الذي تنسبه أميركا إلى العالم وبين الذي ينسبه العالم إلى نفسه، وهذه طبعاً إحدى ركائز مثل هذه الحرب وأهدافها، إضافة إلى ذلك فإن الدعاية النفسية دعاية غير مباشرة، مسمومة بأفكارها وألفاظها وتحركاتها، وهدفها قائم على التسميم السياسي والفكري الذي ينعكس على تصرفات الشعوب سواءً بالإيجاب أو السلب.
وبما أن دعايتها منطلقة من نظرية ديوي المذكورة، فهي تسعى إلى تثقيف الذي يدين بالولاء للجامعات الأميركية، سواء الموجودة في خارج أو داخل الوطن العربي، وفي الداخل تحديداً، فإن جسر الذي تقوم عليه هذه الجامعات وهيكلها الوظيفي له بعدان اثنان، الأول يتمثل في اتخاذها التوعية والتثقيف غطاء لأهدافها الدعائية، والثاني دعمها لمواقف الحلفاء والمقربين منها ومن أنظمتها لتوسيع نطاق الاستجابة، وبالتالي فإن الأهداف الرئيسية للعمليات الأميركية هي المجموعات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والعنصرية وغيرها.
إن احتلال العراق بلا أي شك، كان مأساة حقيقية انعكست ليس فقط على النظام العراقي والعراقيين وحسب، وإنما كان هجوماً حقيقياً على المنطقة العربية وهويتها، ولا يوجد شك أو ريب، من أن آثار هذه الحرب لا يزال العرب يدفعون ثمنها حتى هذه اللحظة وأما المحتل، ذاك الذي دخل بصفته حامي الحمى من الدمار والمنقذ المنتظر من أسلحة دمار شامل، تبين أن أطماعه كانت مختلفة تماماً، قائمة على سياسة همجية هي لب الاستعمار الطاغي، وإن حرب المستعمرين الغرب هي تلك الحرب التي تقتل صاحب الحق وتبرر للمحتل احتلاله.