دوائر الزمن العربي
عبد الحفيظ العمري
في التفاصيل الصغيرة تدور حياتنا كل يوم.
لكنها حياة ليست كالحياة، بل ظلٌ عابر يمرق كل يوم في زمكان ملتوٍ تحت تأثير أثقال الجاذبية!
قلت: جاذبية... بل أثقال مفرطة، وأية أثقال؟ إنها أثقال الهموم المتتابعة.
تلكمُ الحياة التي تسير ببطء، ونحن نراها بكامل النسيان من حولنا، إلى حد الزهايمر.
ولو سألنا: إلى أين تمضي؟
الحقيقة، لا ندري!
فنحن أهل هذا الزمان، نعيش اليوم في عالم مجهول، يلعب فيه الكبار لعبتهم التي بلا قواعد سوى تحقيق مصالحهم، ضاربين صفحاً عن وجود الإله والضوابط والأخلاقيات، لأننا في زمان صارت الديانات فيه مجرد ديكورات للتجميل!
إنّ ما يجري يمثل لعبة نشتوية داروينية لابلاسية بامتياز، في تحدٍ صارخ لكل معطيات العلوم التي تناقض كل ما سبق مع مجيء نظرية ميكانيكا الكم الذاهبة بنا إلى عالم الاحتمالات.
غير أن هذه اللعبة تجرّ معها، على الطريق، الآداب والفنون، في تزوير فج للوعي، وذلك لتصنع حقيقة للواقع على حسب أيديولوجيا اللاعبين.
ولو سألنا: نحن العرب، أين موقعنا من الإعراب في سياق جملة اللعبة الدولية؟
أظنُّ الجوابَ سيكون:
إنّ العرب تجارٌ بطبعهم منذ رحلة الشتاء والصيف، وإذا لم يجدوا بضاعة في رحالهم، تراهم يتاجرون بمبادئهم!
لكنهم تجار خائبون لا يفهمون سوق بناء الدول وارتقاء الشعوب، لذا صاروا ألعوبة بيد كل الدول (الكبار) التي من حولهم...
إنهم "عربٌ أطاعوا رومَهم" كما يقول محمود درويش.
وإمعاناً منهم في التردي، تراهم يغطّون على خيبتهم بالمظاهر البرّاقة والشعارات الجوفاء التي ترفعها كل طائفة وحزب وجماعة، وهي في حقيقة الأمر سراب بقيعة، وترّهات لا يملّون من ترديدها...
والنتيجة؟
تمضي أعمار شعوب محمية الوطن العربي الكسير في خواء، بحيث لم نصنع نحن عرب اليوم شيئاً ذا قيمة في حياتنا سوى هذا الضجيج الذي يسمعه كل مَنْ حولنا بازدراء، بل تجدهم يتفرجون علينا كما يتفرجون على القرود في قفصها المسمى الوطن العربي الكسير!
(حتى مسمى الوطن العربي، قد استبدله إعلامنا المناضل بجملة: الشرق الأوسط، كما شاء الكبار!)
فهل ننكر أننا كعرب خائبون حتى الثمالة؟ أم سنستحضر نظرية المؤامرة التي تبتلع كل مغامراتنا الفاشلة في الحياة؟!
وما نجيد ترديده عند كل انتكاسة: "الكل متآمر علينا"؛ إذ تعني لفظة "الكل" الشرق والغرب، وربما سكان مجرة أندروميدا أيضاً!
بيد أنّا لم نفكر ذات مرة أن نشاهد ذواتنا في مرآة مستوية، لنعرف مَنْ هو عدونا الذي يتآمر علينا!
"هذا جَلْد للذات يا مهندس"، هذا ما أظنه يدور في ذهن مَنْ يقرأ هذه الكلمات، لأننا نقول هكذا دائماً، ونحن حقيقة لم نجلد لا ذاتاً ولا هم يحزنون، ولم نفكر أن نراجع أنفسنا، كشعوب، ولو مرة بعد كل "جَلْد" مزعوم!
لأن ثقافة المراجعة لا وجود لها في قواميس العرب أحفاد عنترة، كيف يراجع نفسه مَنْ يراها على الصواب بالرغم من كل الكوارث التي يعيش في مستنقعها ضمن جغرافية الوطن العربي الكسير؟
ولو تلفتنا حولنا، سنجد حالات الاجترار التي نمارسها في كل مناحي ما نسميها، مجازاً، الحياة!
فنحن عالة على تاريخنا الجاهلي، ذلك التاريخ الذي خلطناه بكل العصور اللاحقة، ورحنا نستحضره في زماننا المعاصر؛ فـ(بسوس) الأمس تلبس أرديتها القانية في كل عصر، وقميص (عثمان) يرفعه في كل زمان دجّالٌ جديد، وهكذا تدور الدائرة ويمضي الزمن العربي...
يقول الشاعر نزار قباني:
سرَقوا منّا الزمانَ العربي
أطفأوا الجمرَ الذي يُحرق صدرَ البَدَوي
علَّقوا لافتةَ البيعِ على كلّ الجبال
سلّموا الحنطة والزيتونَ والليلَ وعطرَ البرتقال
منعوا الأحلامَ أن تحلمَ... ساقوا
كلَّ العصافيرِ التي تكتبُ أشعاراً
إلى السجنِ... فهل جاء زمانٌ
صار فيه كلُّ مَنْ يحملُ صندوقَ سلاحٍ
كالذي يحملُ صندوقَ حشيشٍ... يا بُنَي؟
ثم هل جاء زمانٌ
أصبح التحريرُ والتخديرُ فيه توأمين؟
ثم هل جاء زمانٌ
أصبح الفعلُ به ضدَّ اليدين؟
ثم هل جاء زمانٌ؟
صار فيه الحرفُ ضدَّ الشفتين؟
***