رباعية الأستاذ حليم (2)
(2)
علّمت أبنائي بشق الأنفس، بالاستدانة مرة وبالجمعيات مرات، حتى أصبحت الابنة طبيبة أخصائية في أمراض النساء والتوليد، وشقيقاها أحدهما طبيب والآخر محاسب، تتقاضى الابنة الطبيبة الأخصائية مرتباً شهرياً من بيت المال يغطي بالكاد ثمن ملابسها الداخلية وملابس البيت، وتسألني دائماً من أين لها بثمن الحذاء وملابس الخروج وتكلفة المواصلات، وشقيقها الطبيب رسمت التجاعيد أقواس هزيمة متكررة حول عينيه بلا بذرة أمل في أن يتزوج ويفتح بيتاً، لأن القسط الأول من ثمن شقة متواضعة من حجرتين وصالة من شقق الإسكان المتوسط أو مشروع مبارك القومي لإسكان الشباب يعادل مجمع مرتبه الحكومي في عشر سنوات.
أما شقيقه المحاسب، فقد انزوى كالغراب الحزين ووجد العزاء في بيت شعر للمعرّي يقول "هذا جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد"، ولخشيتي من انفجار الغضب المكتوم، اعتدت بمناسبة وبدون مناسبة أن أذكّر الابنة وشقيقيها بمقولة للمسيح في موعظته الشهيرة على الجبل، حين خاطب الجموع قائلاً: "لا تهتموا بما تأكلون وبما تشربون ولا لأحبائكم بما تلبسون"، إلى أن يقول مخاطباً الجموع: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم"، وكلما طلبت منهم أن يعملوا بها، قالوا في نفس واحد: حفظناها عن ظهر قلب وطلبنا أولا ملكوت الله وبره وبقي الحال على ما هو عليه، ووجدنا أنفسنا على حارة سد، وكأن سيخاً من الحديد المحمي مس عصبا عاريا في ذراعه، انتفض الابن المحاسب قائلاً: "صحيح أننا أبناء بلد فقير، لكن كل ما حولنا يستفز ويستفز".
واستشهد على ذلك بالثراء الفاجر الذي حل بلا سبب كما تقول الأدبيات القانونية بأثرياء مصر الجدد.. سماسرة ووسطاء ومقاولين وتجار مخدرات ومتربّحين بالملايين من أعمال وظائفهم، ومضاربين على كل شيء في السوق من الليمونة حتى أراضي ومواد البناء، كالمنشار طالع واكل نازل واكل، حقيبتهم هي وطنهم، حفلات أفراح أنجالهم في فنادق الخمس نجوم تنقل أخبارها الصحف يوما بيوم كالدروس المقررة في الكتب المدرسية، علامة على الإسراف السفيه، زهور من هولندا، وكافيار من سويسرا، ولحم كانجارو من استراليا، وشمبانيا وويسكي من إنجلترا، والمزة من الهند معززة بالجمبري الجامبو والاستاكوزا، وأخصائيات تجميل من فرنسا، وطباخين من إيطاليا، ومطربون من أوروبا، والراقصات من مصر، كل ذلك يشيع في أفراح أنجالهم وبتكلفة تتراوح بين مليون جنيه وأربعة ملايين جنيه للفرح الواحد، تهدر هدرا في ليلة واحدة على سبيل الإبهار والتفاخر ليس إلا، وهو ما يستوجب الحجر عليهم حالة كونهم سفهاء.
تدخلت شقيقته الطبيبة في الحديث فقالت إن العطب وصل الجذور، وتخلخل الجبل، وتسرب الصدأ إلى حديد خوازيق التسليح، وفي الجعبة من الشواهد على ذلك ما يفيض به الكيل
وعلى الجانب الآخر ـ يقول الابن ـ ربع عدد السكان يعيشون تحت خط الفقر، منهم من جاوروا الموتى في قبورهم وهم أحياء، ومنهم من وجد الحل في بيع كميات من دمائهم أو أعضاء أجسامهم ليعيشوا، ومنهم من اتخذ من البلطجة مهنة وحرفة يتكسب منها، ومنهم من ضاق بهم المكان فهاجروا إلى الزمان والتمسوا الحل في فتاوى زعماء الفتن، فحملوا الرشاشات وأطلقوا رصاصاتهم على مجتمع بدا لهم كافرا، ومئات الألوف من خريجي الجامعات وجواهر المجتمع العلمية ركبهم الذهان من طول ما هم عليه من بطالة أو لأنهم فشلوا في الحصول على مأوى يتزوجون فيه ويفتحون بيوتا، والعاملون في جهاز الدولة وهم القوة المنتجة يمارسون لعبة شد الحبل مع الحكومة، "على قد فلوسهم" من جانب العاملين، و"على قدر إنتاجهم" من جانب الحكومة، وحين أعياهم شد الحبل مع الحكومة مارسوا نفس اللعبة مع المتعاملين معهم من أصحاب المصالح والحاجات، فأتت أُكُلها وأفرزت لغة جديدة بمصطلحات جديدة هي: اللحلوح وكف مريم والبريزة والأستك والباكو والأرنب والفيل، وأصبحت مواقع العمل الحكومي بالنسبة للعاملين والمتعاملين على السواء أشبه بذلك المبنى في العاصمة الكورية سيول الذي يلقى كراهية من الجميع لأنه كان مقر الحكومة المركزية أثناء الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1940.
وفي هذه البيئة ـ يقول الابن ـ يفسد من كان في الأصل صالحا، وكأنه في لحظة اكتشف فيها الحقيقة وجدته يهتف على طريقة أرشميدس "وجدتها.. وجدتها"، خشيت أن يكون قد أصابه مساً من جنون أو هلاوس، سألته: ما هي؟ قال: أتصرف في كليتي اليسرى أو كليتي اليمنى بالبيع لأتزوج وأفتح بيتاً!!، قال شقيقه الطبيب: لو أن السلطان بلغه اعتراضك على توزيع الثروات والدخول لأمرك بأن تخرج من البلد كما فعل مع جحا، وحكى أن جحا ذهب للسلطان وطلب منه أن يساوي بين كفة الأغنياء وكفة الفقراء، ويوزع المال بالعدل بين الطرفين، فاغتاظ السلطان لجرأته وأمره بالخروج من البلد، فجهّز جحا أشياءه ووضعها على حماره، وكان من ضمنها حجر ثقيل جدا كان جحا يستخدمه كمقعد، فلما وضع الحجر على جانب من الحمار والملابس الخفيفة في الجانب الآخر، وقع الحجر. وكلما أعاد حجا رفع الحجر كان يقع، وكان أحد الأغنياء يراقب ما يفعله جحا، فأخذ يضحك بصوت عال، ولما سأله جحا عن سبب ضحكه، قال له الغني: يجب أن تتساوى الكفتين حتى يسير الحمار، قال جحا: "قلنا كده.. قالوا اطلعوا من البلد".
وتدخلت شقيقته الطبيبة في الحديث فقالت إن العطب وصل الجذور، وتخلخل الجبل، وتسرب الصدأ إلى حديد خوازيق التسليح، وفي الجعبة من الشواهد على ذلك ما يفيض به الكيل، ولأننا لا نملك قوة التغيير، تصبح المشكلة الآن هي مشكلة أسرة لا مشكلة وطن، أسرة من الأغلبية الصامتة سارت على الصراط المستقيم، سلكت طريق التعليم والتفوق، ثم وجدنا أنفسنا كالأيتام على مائدة اللئام، وأضافت أنه إذا كان شقيقها المحاسب وجد الحل في أن يتصرف بالبيع بإحدى كليتيه ليعيش، فمن يحل مشكلتها هي التي يعجز مرتبها عن حلها وهي ثمن الحذاء وملابس الخروج وتكلفة المواصلات، قال شقيقها الطبيب: احتفظي لنفسك بمشكلتك وإلا فعلوا بك ما فعلوه مع جحا.
...
نكمل غداً بإذن الله.