رحلة بندقية بين اليمن وكاراباخ
شَكَّلَتْ البنادق المأجورة والمقاتلون العابرون للحدود أبرز أزمات الثورة السورية وأصعب التحديات التي واجهت مشروع السوريين وطموحهم في الحرية والديمقراطية، ابتداء بتنظيم جبهة النصرة وتنظيم داعش، ثم مليشيا حزب الله والمليشيات العراقية والأفغانية والحرس الثوري الإيراني، وصولاً إلى الجيش الروسي ومرتزقة فاغنر.
إلا أن أياً من السوريين لم يكن يعتقد أنه في يوم من الأيام سيكون لتلك الأزمة وجه وشكل آخر، يصبح فيه المقاتل السوري مهاجراً يعبر الحدود للقتال في بلد لا يعرفه ولا يعرف عن أسباب النزاع فيه سوى ما لقنه إياه من جعل منه الداعم والصدفة قائداً ومسؤولاً في المعارضة.
في مايو/أيار من عام 2015 أصدر فيلق الشام أحد الفصائل المسلحة السورية المعارضة بيانه الشهير الذي أعلن فيه تأييده التام لعاصفة الحزم، لم يكن حينها تأييد عاصفة الحزم موقفا مستغربا في أوساط ثوار سورية، بعدما كانت إيران قد ترجمت موقفها العدواني من ثورة السوريين بإرسال عشرات الآلاف من المرتزقة الموالين لها من أجل إجهاض ثورة الكرامة في سورية، لتمتد المواجهات المباشرة بين ثوار سورية ومليشيات إيران ومرتزقتها على طول جبهات ومدن سورية المنتفضة ضد نظام بشار الأسد.
الاستعداد التام الذي أبداه فيلق الشام للقتال في اليمن ضد الحوثيين وتجهيزه لألفين من مقاتليه ووضعهم تحت تصرف الحكومة السعودية، تجاوز الموقف السياسي والمعنوي لثوار سورية والمتمثل في ضرورة اتخاذ العرب خطوات عملية للحد من النفوذ الإيراني، لكن التعهد الذي قدمه فيلق الشام بقي حينئذ دون تنفيذ، وكان الاعتقاد السائد حينها أن التعهد بإرسال المقاتلين خارج الحدود لا يعدو كونه تعبيرا متقدما عن التأييد لمعركة عربية طال انتظارها ضد أذرع إيران في المنطقة، والتي بدورها ستشغل إيران عن جبهة سورية التي كان أبناؤها يقاتلون للعام الرابع على التوالي وحدهم ضد غزو مليشيات إيران.
تفرض المقامرة الحالية بتاريخ الثورة ورصيدها الأخلاقي ضرورة استنهاض العمل الوطني والحاجة الماسة لاستعادة القرار والإطار الوطني للثورة ومؤسساتها، واستعادة أولوية مصالح الشعب السوري وثورته
إلا أن الاعتقاد بأن أياً من الفصائل التي يعد الدفاع عن الثورة مصدر شرعيتها الوحيد لن تجرؤ على إرسال مقاتل واحد خارج حدود سورية في ظل العدوان الروسي والإيراني المستمر تبدد حين بات تواجد مقاتلين سوريين في ليبيا إلى جانب قوات حكومة الوفاق أمراً مؤكداً.
وعلى الرغم من الموقف الرافض الذي أبداه طيف واسع من الناشطين والمعارضين والبيان الصادر عن المجلس الإسلامي السوري الذي اعتبر ترك سورية للقتال خارجها من الموبقات والكبائر، وبيان الجيش الوطني السوري بعدم إرساله أي مقاتل إلى ليبيا، فإن تشويه سمعة الثورة وتاريخ بندقيتها ورجالها وشهدائها من خلال توظيف المقاتلين السوريين في حروب الآخرين وميادينهم وصراعاتهم لا يزال مستمرا، مع تواتر الأنباء والمقاطع المصورة عن تواجد مقاتلين سوريين في أذربيجان للقتال إلى جانبها ضد أرمينيا.
وعلاوة على الاعتبارات الأخلاقية والثورية التي تجرم قتال السوريين في أي مكان خارج سورية، إلا أن عوامل إضافية تجعل من القتال في أذربيجان جريمة مضاعفة، حيث لم تغلق أذربيجان سفارتها في دمشق بعد اندلاع الثورة السورية حتى أغسطس/آب 2012، وحين قررت إغلاق السفارة في دمشق لم يشر الناطق باسم الخارجية الأذرية في بيانه عن إغلاق السفارة إلى أي اعتبارات إنسانية للقرار أو توتر في العلاقة بين البلدين بل علل القرار بسوء الأوضاع الأمنية في دمشق.
إضافة إلى ذلك يمثل التشابه بين النظامين السوري والأذري الذي ترجمه رئيسها السابق حيدر علييف حين وصف حافظ الأسد بأنه صديقه الصدوق، والسمات الديكتاتورية المشتركة بينهما وفساد الطبقة الحاكمة في كلا البلدين، إلى جانب انعدام أي مشتركات على صعيد اللغة ولا التاريخ ولا حتى على صعيد الموقف من الربيع العربي والموقف من ثورة السوريين عامل إضافي يضاعف بشاعة جريمة من سهلوا ومن انتقلوا إلى القتال هناك، ويغلق الباب وبإحكام أمام أي محاولات لتبرير القتال هناك أو التساهل مع المدافعين عنه والمسوقين له.
وقد لا نلوم هنا من دفعتهم الظروف المعيشية بالغة القسوة للقتال في أذربيجان بأنهم ليسوا على دراية بماهية النظام الذي يقاتلون إلى جانبه وتاريخ مواقفه وعلاقاته مع نظام الأسد وإسرائيل أيضاً، وقد لا يتساوى المقاتلون في المسؤولية مع المشتغلين والمسؤولين عن تسهيل تجنيد السوريين في معارك الآخرين، إلا أن كل ذلك لا يشكل مبرراً كافياً للتسامح مع إقدامهم على هذه الخطوة المشينة بحق الثورة وشهدائها وجمهورها.
ولعل استمرار المتاجرة بالشباب السوريين واستثمار ظروفهم المعيشية القاسية للزج بهم في معارك هنا وهناك، لم يعد مستغربا في ظل النفوذ الذي بات يمتلكه مناصرو نظرية التضحية بسورية الجنين لصالح الأم حينما تدعو الحاجة إلى ذلك في مؤسسات المعارضة السورية العسكرية والسياسية، وهو ما قد يفسر صمت الائتلاف الوطني السوري الذي يفترض أنه المظلة الشرعية والوحيدة لتمثيل الشعب السوري والمعبر عن طموحاته لا طموحات الغير ومصالحه أياً كان ذلك الغير وأيا كان موقعه.
يطيب لأصحاب ومؤيدي نظرية الجنين والأم تصنيف منتقديهم ونظريتهم في خانة العداء لتركيا ومصالحها، متجاهلين أن المشكلة الحالية في العلاقة بين الثورة السورية وتركيا تكمن بشكل رئيسي في سياستهم ومفهومهم لتلك العلاقة والانحدار بها من مستوى التعاون والشراكة إلى مستوى التبعية والإذعان، وأن تلك المشكلة في العلاقة لم تتفاقم إلا في ظل تفردهم بمشهد المعارضة السورية وصناعة القرار فيها.
تفرض المقامرة الحالية بتاريخ الثورة ورصيدها الأخلاقي ضرورة استنهاض العمل الوطني والحاجة الماسة لاستعادة القرار والإطار الوطني للثورة ومؤسساتها، واستعادة أولوية مصالح الشعب السوري وثورته وحقوقه في أجندة مؤسسات الثورة من خلال إصلاحها وفق رؤى موضوعية لا شعبوية تمهد لشكل جديد من العلاقات والتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة وفي مقدمتها تركيا وفق الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.