رحل كونديرا بعيداً عن "حفلة التفاهة"
قصي جهاد زهر الدين
"يوماً ما، قام رجل تشيكي بطلب تأشيرة هجرة، سأله الموظف: أين تريد الذهاب؟ فأجاب الرجل: ليس مهماً، فعرض الموظف على الرجل كرة أرضية، وقال له: اختر البلد لو سمحت، نظر الرجل إلى الكرة الأرضية، أدارها ببطء، ثم قال: هل لديك كرة أخرى؟!". (ميلان كونديرا).
منذ أيامٍ قليلةٍ فقط، غادر عالمنا الروائي والأديب، الكاتب الفرنسي ذو الأصول التشيكية، ميلان كونديرا، عن عمر يناهز الرابعة والتسعين، تاركاً خلفه الكثير من الكتب، والكثير الكثير من الجدل.
التحق كونديرا بالحزب الشيوعي عام 1948، ثم ما لبث أن فُصل من الحزب برفقة الكاتب جون ترافولكا عام 1950. ثمّ فُصل أيضاً من وظيفته عام 1968، بعد اجتياح الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، وانضمامه إلى ربيع براغ، لتُمنع بعدها كتبه، قراءةً وتداولاً، لمدّة خمس سنوات كاملة، ومن ثم ليطردَ للمرةِ الأخيرة من بلاده، فيتوجه إلى فرنسا التي سينهي حياته فيها.
لم تكتفِ تشيكوسلوفاكيا بطرده، بل ذهبت أبعد من ذلك بإسقاط الجنسية عنه بشكل نهائي، كنتيجة لكتابه "الضحك والنسيان"، ليحصل بعدها بثلاث سنوات على الجنسية الفرنسية.
ما تقدّم ليس سوى موجز يسير عن حياة ميلان كونديرا السياسية، إن صح القول، حياته الباذخة بالشروح والأحداث التراجيدية والدرامية التي أثّرت أيّما تأثير في كتاباته اللاحقة، ولا سيما روايته "كائن لا تحتمل خفته"، التي حمل بين صفحاتها السخرية المبطنة من عالم يسخرُ بشعوبه منذُ بدء الخليقة.
الخفة هي أن نقرّر بكل "حرية" كيف "نقيد أنفسنا" بالثقل
هذا الكائن الذي يحبّ حيناً ويكره أحياناً أُخرى، محاكياً الثورات وأعدائها الرأسماليين والستالينيين على حدّ سواء، طارحاً فلسفته الخاصة، كما في كلّ أعماله، السابقة واللاحقة، من خلال الكشف عن حالة التناقض بين قيمتين إنسانيتين حدّيتين وكبيرتين في آن واحد، هما: "الخفة والثقل"، متسائلاً على طريقة العبث: "هل نريد أن نحيا بخفة؟ أن نتجرّد من جميع ثقل المبادئ والقيم التي تقيّد كلّ ما يتعلق بالشخصية الإنسانية، أم أن نحيا محمّلين بالثقل وأوزاره؟ الثقل الذي يجعل لوجودنا ثباتاً أضمن وجذوراً أعمق"، فربط بذلك حالة الخفّة بمفهوم الحرية، وحالة الثقل بمفهوم الحب، ليجعل من الحب (بكلّ حوامله) ندّاً للحرية. فمن الذي سينتصر في هذه المعركة المجنونة؟
كونديرا، كعادته أيضاً، ترك تساؤله مضيئاً دون إجابةٍ قد تقلّلُ من بريقه، معبّراً بطريقة مغرية عن الخفّة الحقيقية المنبثقة من اختيار الثقل بكامل الإرادة الحرة!
إذاً، الخفة هي أن نقرّر بكل "حرية" كيف "نقيد أنفسنا" بالثقل.
توالت روايات كونديرا التي حملت هي الأخرى أسلوبه الجديد في طرح الحدث ومعالجته درامياً وتكنيكياً، ضارباً عُرض الحائط بالأسلوب الروائي التقليدي، ما أثار جدلاً كثيراً بين قرائه، ولا سيما بعد رحيله. أوليس الجدل الدائر اليوم بين موالي أدبه ومعارضي أسلوبه "اللا روائي" في الروي، ضرباً من ضروب الخلود الذي تطرّق إليه في روايته التي تحمل الاسم ذاته؟
لم يكن كونديرا مجرّد راوي، بل كان فيلسوفاً واقعياً، نقل لنا نقده اللاذع لكلّ ما هو لاهوتي وسلطوي بطريقة أدبية حوارية قلّ نظيرها
هل تقصّد فعلاً ميلان كونديرا أن يجعل من نفسه مُحدّثاً ومبشراً لفن الرواية الجديدة، كي يجعل من اسمه وأعماله مثاراً لكلّ أنواع النقد الذي سيضمن له بعد رحلته الأخيرة، الخلود الذي أفرد له رواية كاملة؟
اعتادت الشعوب عموماً باختلاف ثقافاتها وأعراقها، رفض كلّ ما هو جديد، ولا سيما في ما يتعلّق بالفن، وكأنّ الأخير حكراً على الكلاسيك و"الفصول الخمسة" التي أرادها شكسبير.
والحق يقال: ميلان كونديرا لم يكن مجرّد راوٍ، بل كان فيلسوفاً واقعياً، نقل لنا نقده اللاذع لكلّ ما هو لاهوتي وسلطوي بطريقة أدبية حوارية قلّ نظيرها. "بل كافكا سخر من أجلنا" هكذا قال في كتابه "الوصايا المغدورة"، ردّاً على الكنائسيين الذين قالوا: "كافكا تألم من أجلنا".
لم ينجُ كونديرا (حتى قبل موته)، من نقد أقرانه من الكتّاب. فالروائي البرتغالي، جوزيه سراماغو مثلاً، اتهم رواية "المزحة" بأنها مضجرة، بينما ساراماغو نفسه وقع في روايته (العظيمة) العمى بخطأ قاتل، عندما جعل من مرض العمى الذي لم يوفّر أحداً، عصيّاً على المرأة البطلة، دون حتى أن يذكر لنا علّة عدم إصابتها، بل تركنا لاحتمالات غير موجودة أساساً.
أردتُ أن أقول: "كلّ كاتب مهما علا شأنه له سقطاته التي لا بد منها".
يقولُ آخر: "كمية السخرية بعد موت كونديرا تتناسب طرداً مع كمية البلاهة، وبكلامٍ أصح، كمية عدم المعرفة، أو عدم فهم المعرفة.. التي تحتاج إلى الكثير من الجهد الفكري".
قد يكون كونديرا، كغيره من الكتّاب، لا يمتلك أدوات الكمال، لكنه أيضاً، قد يكون كاتب لا يحدث كلّ جيل، وهذا الأمر مرهونٌ للوقت، فإما أن ينفيه أو يؤكده
ما حصل مع كونديرا من رفض لفنه الجديد، قد يذهب بنا لما حصل مع بيتهوفن عندما ألف "الأداجيو" الأخير له، ثم لقي ما لقي من سخط واعتراض غوغائي. والأداجيو ذاته عاش بعد موت بيتهوفن أكثر بكثير من منتقديه الساخطين.
قد يكون كونديرا، كغيره من الكتّاب، لا يمتلك أدوات الكمال، لكنه أيضاً قد يكون كاتباً لا يحدث كلّ جيل، وهذا الأمر مرهونٌ للوقت، فإما أن يدحضه أو يؤكده. أما عن الغوغائيين ذوي الصراخ الفارغ، فهم يتحدثون كلّ يوم، دون الحاجة لأيّة حجة دامغة.
أخيراً، اعتدنا، نحن العرب، لما نحمله من "ثقل" القضايا التاريخية، وعلى رأسها قضية فلسطين، أن نقحم شخص الفنان ومُنتَجه الفني بموقفه من قضايانا، وهذا جدلٌ آخر أثاره رحيل كونديرا الذي أثنى يوماً ما على كوزموبوليتانية إسرائيل وتفوّقها الأخلاقي والحضاري! ليحصل بعدها على جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع، الجائزة ذاتها التي منحها المحتل ذاته لأسماء ما زلنا نتغنّى بمُنتَجها الفكري والأدبي، ومنهم بيرتراند راسل، أوكتافيو باث، ماريو يوسا، سيمون دي بوفوار ضمن "حفلة من حفلات التفاهة الكثيرة" التي يبدو أنها لن تنتهي.
رحل كونديرا، بعد أن قال: "إذا كنا نفقل القبر بحجر، فهذا لأننا لا نرغب في رجوع الميت. الحجر الثقيل يقول له: ابق حيث أنت!".