رحيل الأسطورة مارادونا: يد الله تعود إلى السماء
يوسف دعي
إن حماسة كرة القدم وقدرتها على خلق الشعور الجماعي وصياغة الرموز جعلتاها في مرتبة الدين، وإن كان من غير المنطقي أن يتم تأسيس الديني على ما هو رياضي، مع ذلك فإن هناك العديد من أوجه التشابه بين الرياضة والدين. فهل قدسية مارادونا في تمثّل الجماهير تنطلق من فكرة غوستاف لوبون، في كونها جماهير مجنونة غير عقلانية، لا تقتنع إلا بالصور الإيحائية والشعارات الحماسية العاطفية، والتي تعكسها تحركات الأسطورة مارادونا في المربع الأخضر، أم أن للأسطورة شيئاً خرافياً يميزه عن باقي اللاعبين؟ إن التفكير في حالة أسطورة كرة القدم الراحل مارادونا، اللاعب العظيم في الملعب، والهائل في كل مكان، يخبرنا بشكل أساسي عن العلاقات القائمة بين الرياضة والدين والجغرافية والسياسة والاقتصاد والعدالة، فهي حقيقة اجتماعية كاملة تحتاج إلى دراسة وتفكيك.
تقوم الرياضة مقام الدين سواء من خلال الضبط الاجتماعي عبر سياسات التلهية، ونقل الأيديولوجيات السائدة عبر صياغتها وتشكيلها في صور ورموز وأساطير، "الأفيون الجديد للشعوب" من خلال ربط الرياضة بالهوية والقومية وإضفاء المشروعية على الأنظمة وعقائدها داخليا وخارجياً، فقد ساهمت الدراسات النقدية للرياضة، في منتصف الستينيات في فرنسا، في تفكيك السياسات الرياضية، والتي تعتبرها أدوات للتلهية ونقل الأيديولوجيات من خلال صياغتها في صور ورموز، "الأفيون الجديد للشعوب". ومن جهة أخرى يمكن النظر للعلاقة بين الدين والرياضة من منطلق دوركهايمي يخدم وظيفتين، تقوم الأولى على إنتاج التماسك الاجتماعي والحفاظ عليه من خلال المعتقدات والمعايير والقيم والطقوس المشتركة، وهي سمة مشتركة بين الدين والرياضة، الثانية، أنها توفر معنى لأتباعها. فهي عامل مساعد في انتقال العادات والتقاليد والأعراف بين الأجيال، فقد كان هذا مشتركاً بين معظم الأرجنتينيين منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عبر خلقهم لهوية وعقيدة رياضية جديدة متمركزة حول شخصية مارادونا، "المسيح الجديد المخلص".
مارادونا المسيح المخلص!
ففي زمن الفرجة والإنجازات الخرافية للأسطورة مارادونا، لم تكن الأرجنتين بخير تحت سطلة الحكم العسكري للرئيس فيديلا، والذي عرفت حقبته بالفظائع ضد الحرية والفقر والبطالة، وانتشار الاختفاء القسري للمعارضين السياسيين. عُرفت البلاد أثناء حكمه بالسنوات السوداء؛ قتل وشرد ما يقارب 30,000 من المعارضين وارتفعت معدلات التضخم التي وصلت إلى 400 في المئة، ففي نفس السنة قرر النظام العسكري تنظيم كأس العالم لعام 1978 والذي كلف البلاد ما يقارب مليار دولار.
تحول مارادونا إلى ظاهرة رياضية بروح سياسية، تجسدت في صورة البطل الفقير المناصر للمحرومين
يذهب Jonatan wilson ، في كتابه Angels With Dirty Faces: The Footballing History of Argentina، إلى أن الأرجنتين إضافة إلى الأزمات السياسية والاقتصادية عرفت أزمة هوية، فكانت كرة القدم، باعتبارها هوية قومية ووطنية للأرجنتين، هي ما يوحد البلاد، في الوقت الذي ظهرت فيه هويات وثقافات متعددة، ومتصارعة أحيانا. لذلك، تم تصوير لاعب كرة القدم بطلاً قومياً، أو المسيح الذي يخلص الشعب من الخطايا والأزمات.
قُدر لمارادونا أن ينبعث من وحل المعاناة، في سياق سياسي ومجتمعي مضطرب، نشأ في فيلا فيوريتو، أحد الأحياء الفقيرة في الضواحي الجنوبية لمدينة بوينس آيرس، فبدأ، وهو في سن الـ16، مشواره الاحترافي مع فريق رجنتينوس جونيورز، ثم انتقل في موسم 1981 إلى نادي المحرومين والفقراء، فريق بوكا جونيورز، رغم رغبة نادي ريفر بليت المدعوم سياسياً ومالياً من النظام العسكري في ضمه. يقول: "دائما كنت أعرف أنني سأعيش حالة خاصة مع بوكا جونيورز، فكان يبهرني هذا الفريق، كنت متيماً به، فأنا دييجو ملك الشعب".
تحول مارادونا إلى ظاهرة رياضية بروح سياسية، تجسدت في صورة البطل الفقير المناصر للمحرومين، لقد كانت كرة القدم بمثابة المُسكن الرمزي لعدم المساواة وغياب العدالة، فهي نوع من المساحة النقية التي تتيح للطبقة الفقيرة فرصة الانعتاق والحراك. فمن خلال كرة القدم والحماسة في الملاعب، يبني المشجعون روابط اجتماعية جديدة، ومساحات جديدة للتأقلم والمؤانسة، فهي بمثابة دين العصر الجديد، كما يصفها العالم الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، دين له طقوس ويقوم على التعبئة والانفعالات الطقسية والبحث عن المخلص. ففي الملعب وخارج الملعب، جعلت تحركات الراحل مارادونا منه بطلاً قومياً مناصراً للمضطهدين بمواقفه السياسية ذات الروح الماركسية، تجاه السياسات النيوليبرالية والمعادية للفاشية.
مارادونا صوت رياضي مقاوم للسياسات النيوليبرالية.
قادماً من أحد الأحياء الفقيرة في ضواحي بوينس آيرس، لم يخف الأسطورة الأرجنتيني روحه الثورية القريبة من اليسار، وهو الذي أطلق عليه قائد الثورة الكوبية ورئيسها السابق فيديل كاسترو "تشي الرياضة"، نسبة إلى القائد الثوري الكوبي إرنستو "تشي" جيفارا المعروف باسم تشي جيفارا. وقد عرفت عنه مواقفه المناهضة للسياسات النيوليبرالية، ومعاداة الولايات المتحدة الأميركية، فقد قال يوماً في لقاء تلفزيوني إنه يكره كل شيء من الولايات المتحدة الأميركية، فوضعه هذا جنباً إلى جنب مع أعداء أمريكا. يقول في إحدى لقاءاته: "كنت قد حصلت على جائزتين في عام 1987، واحدة في كوبا والأخرى في أميركا، قلت للأميركيين (يمكنكم الاحتفاظ بتلك الجائزة) وذهبت مباشرة إلى كوبا".
إن مسار مارادونا الثوري يدعو لإعادة التفكير في أطروحات نقد الرياضة، واعتبار اللحظات الرياضية تخدم سياسة التلهية وصرف انتباه الناس عن الفظائع التي تواجه بها الحرية، والتي دافعت عنها الحركة النظرية النقدية في الرياضة، مع مجلة QUEL CORP وQUASIMODO في الستينيات من القرن الماضي. فإن كانت الرياضة وكرة القدم بشكل عام مجالين حيويين تحاول الأنظمة السياسية استغلالهما للتعبئة وخلق فكرة الإجماع حول الدولة ورموزها، فهما أيضا مجالان يمتازان بالمقاومة والرغبة في تقييد سيطرة الدولة عبر استغلال الملاعب للتعبير والتنديد. فقد رفض ديغو مارادونا أن يكون أداة من أدوات التسلية وتغييب الوعي في زمن الديكتاتورية العسكرية بالأرجنتين، وقد استغل مكانته الرمزية في الأرجنتين والدول اللاتينية لتمرير مواقفه من بعض القضايا السياسية للفئات المحرومة، ومساندته للقضايا الإنسانية، كالقضية الفلسطينية وقضايا التحرر/التحرير عبر العالم، ومناهضته للصناعة الرياضية التي شهدتها حقبة البرازيلي هافيلانج على رأس الاتحاد الدولي لكرة القدم، وللدول الكبرى المسيطرة وأذرعها المالية والإعلامية، التي همشت المسار الثوري للاعب، وأنتجت مسلسلا درامياً حول أسطورة مارادونا مع المخدرات حتى لحظة وداعه الأخير.