روسيا "العظمى" الضعيفة اقتصادياً... لماذا؟
منذ بداية التسعينيات شهد النظام العالمي تحولات جذرية نتج عنها الانتقال من الثنائية القطبية إلى القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. أصبحت روسيا خلال تلك الأعوام أشبه بالرجل المريض، حيث كانت تتخبط داخلياً وذات نفوذ محدود خارجياً، ما فتح المجال أمام القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة الأميركية لاستغلال هذا المرض وتحويله إلى مزيد من مكامن النفوذ عالمياً. ولكن سرعان ما تمكنت روسيا من استعادة دورها كقوة كبرى بعد أن كانت دولة تابعة لأميركا خلال فترة بوريس يلسن.
خلفيّة
تبلغ مساحة روسيا حوالى 17 مليون كلم مربع وعدد سكانها نحو145 مليون نسمة، تتألف من 21 جمهورية فدرالية اتحادية.
الاقتصاد الروسي لا يوازي موقعها السياسي، فإنتاجها المحلي حوالى 1.7 تريليون دولار (الصين 14 ترليون). رغم وجود موارد غنية مختلفة، فهي أكبر منتج للنفط وثاني أكبر مصدّر بعد المملكة العربية السعودية، ولديها أكبر احتياطي للغاز، فحوالى خمسين في المائة من إجمالي موارد الميزانية الروسية من الطاقة، فهذا يدل على مدى اعتماد الاقتصاد الروسي على تصدير السلاح والطاقة ما يضعها في خانة الارتهان لأسعار النفط العالمية.
أحد المؤثرات السلبية على الاقتصاد الروسي هو عامل الطقس (إقفال الموانئ على سبيل المثال) وعامل عدد السكان حيث يعدّ منخفضاً؛ ما يؤثر على الإنتاج والاستهلاك، ويؤدي إلى عدم اقتحام السوق العالمية على صعيد الإنتاج الإلكتروني وغيره من الصناعات.
ما يؤرق الأمن القومي الروسي هو أسعار النفط حيث يرتكز الاقتصاد الروسي على الطاقة وموضوع التطرف والأعمال الإرهابية
أما المؤثرات الإيجابية فهي تمتلك أكبر طاقة علماء في العالم، وعشرات العلماء حازوا على جوائز نوبل في اختصاصات مختلفة، فهي أول دولة صعدت إلى الفضاء إضافة إلى الحس الوطني والانتماء في روسيا، حجم الإنفاق لروسيا يجعلها في المرتبة السادسة عالمياً ولكن من إيجابياتها ترشيد الإنفاق بطريقة جيدة.
روسيا بين عامي 1991 - 2000
بعد انتهاء الحرب الباردة واضمحلال الاتحاد السوفييتي انتخب بوريس يلتسن أول رئيس لروسيا الاتحادية عام 1991 حيث ورث حقبة تحول من نظام القطبين إلى نظام عالمي جديد مبني على الرأسمالية.
هذا الواقع فرض على يلتسن الاندماج بهذا النموذج، وألزمه باتخاذ إجراءات درامية منها خفض الميزانية، تحرير الأسعار، رفع الدعم وخصخصة القطاع الاقتصادي، ما أدى إلى ارتفاع التوتر السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإلى انخفاض الإنتاج بالقطاع الزراعي والصناعي، فانخفضت الصادرات الروسية 50 في المائة وأصبحت تستورد 70 في المائة من المواد الغذائية، وبلغ العجز حوالى مائتي مليار دولار.
أما على الصعيد السياسي، فمع المتغيرات السياسية الدولية إضافة إلى التوترات السياسية الداخلية، وقناعة يلتسن بأن روسيا دولة غربية أدت إلى الالتحاق بالقطب الأميركي وخاصة أنه كان بحاجة إلى الدعم الخارجي، فبقيت روسيا كذلك حتى مجيء بوتين رئيساً للجمهورية عام 2000.
روسيا وبوتين
ورث بوتين عام 2000 مرحلة ثقيلة جداً على الصعيدين السياسي والاقتصادي. بدأ منذ توليه السلطة بالإصلاح السياسي والاقتصادي الداخلي فمكّنه من التخلص بنسب كبيرة من سيطرة المافيا، ومن تحقيق الاستقرار الداخلي، وحلّ مشكلة رئيسية تختص بالأمن القومي وهو موضوع الشيشان.
ففي نهاية عام 2001 كان أفضل أداء للاقتصاد منذ التسعينيات ما أدى إلى جلب الكثير من الاستثمارات، أما اليوم فروسيا في المرتبة 11 اقتصادياً على الصعيد العالمي وكانت في مرتبات أفضل خلال فترة غلاء أسعار النفط عالمياً.
أما على الصعيد السياسي، فتمكن بوتين من تفعيل دور روسيا عالمياً، واستطاع إظهار طاقتها وتفعيل نقاط قوتها مثل الواقع (الجيو - سياسي)، العسكري، التكنولوجي والطاقوي، ما سمح له بمزاحمة الدول العظمى في مناطق جغرافية مختلفة قريبة وبعيدة عنها. تبنى بوتين في العلاقة مع الغرب منطق الشراكة لا الحلف.
روسيا اليوم
ما يؤرق الأمن القومي الروسي هو أسعار النفط حيث يرتكز الاقتصاد الروسي على الطاقة وموضوع التطرف والأعمال الإرهابية. أما في المقلب الآخر فروسيا تسعى جاهدة لفرض نفسها في السياسة العالمية وتسعى لنظام عالمي متعدد الأقطاب مثل الصين. وتعتبر روسيا أن البداية تكون من تزّعم منطقة أوراسيا فيمكنها عندئذ من فرض قرارها دولياً.
تعتمد روسيا على منطق القوة الناعمة في المرحلة الحالية، وهي وسيلة مختلفة عن طريقة الاتحاد السوفييتي المرتكزة على بناء قواعد عسكرية، أما على الصعيد الاقتصادي فتعمد إلى توسيع علاقاتها من خلال دخول منظمات مختلفة مثل شانغهاي ورابطة الدول المستقلة إضافة إلى اتفاقات جانبية مع دول مختلفة مثل الصين والهند واليابان.
ولكن لكي تصل روسيا إلى ما تصبو إليه، عليها مواجهة معضلات مختلفة، وبقدر ما تتمكن من تخفيف تأثيرها بقدر ما تنافس أكثر مستقبلياً، مثل فرض نفوذ غربي سياسي في الدول المجاورة لها، حلّ المعضلات الاقتصادية حيث أرقام التضخم تزداد وسعر النفط ينخفض لأسباب مختلفة، حلّ المعضلة السكانية إذ من المتوقع عام 2050 أن يصبح عدد سكان روسيا 22 مليوناً فقط، إضافة إلى المعضلة الأمنية وهي الوجود الأميركي والناتو بالجوار، إضافة إلى المعوقات الأمنية الداخلية.