زلزال تركيا.. بين كمد الآلاف ودناءة الشامتين
قد يسوؤك عزيزي القارئ، أيّاً كان موطنك ودينك، ما قامت صحيفة شارلي إيبدو بنشره مؤخراً عن كارثة زلزال تركيا الأخير، زلزال كغيره من الكوارث الطبيعية المعرّضة للحدوث في أيّ بقعة على هذه الأرض، راح ضحيته الآلاف تحت أنقاض منازلهم التي كانت عامرة بأرواحهم وذكرياتهم، أحياء بكاملها صارت أنقاضاً في دقائق قليلة، دفعتنا لأن نقف جميعاً أمام تبعاتها، وقلوبنا تحترق على من وافتهم المنية، ومن فقدوا منازلهم وأحبتهم، وقتما كانوا آمنين في مخادعهم وسط أحلك ساعات الليل ظلمة، وأقسى أوقات الشتاء برودة، ثم، ودون سابق إنذار، تحوّل سلامهم إلى صورة ليوم القيامة.. أيّ شيء أقسى من أن يتهشّم ملاذك الآمن ويتصدّع، وأن تهوي الأرض أسفل قدميك قبل أن تعي تفسيراً لما يحدث؟! لا بد أنهم ظنّوا أنّ القيامة قد حلّت دون شك.
عاش الضحايا والمصابون مع هذا الحدث تجربة تختزل في طياتها أهوال الحرب والفقد والدمار والخوف والموت والتشرّد، ولهذا يستحقون منا المساندة بكلّ ما أوتينا، والدعم رغم صدمتنا من هول ما حدث، وكلّ من وجد بداخله قدراً، ولو ضئيلاً، من الإنسانية، سيقف أمام تلك الكارثة متأملاً، خائفاً، وداعياً الله أن يساعد من ابتلاهم بألم يتجاوز حدود إدراك من لم يمر بتجربة كهذه.
في المقابل، وبينما يحاول المسعفون والمنقذون انتشال الضحايا من تحت حُطام منازلهم، وبينما العالم يبكي لهول ما حدث، قامت صحيفة شارلي إيبدو بنشر "كاريكاتير" شامت بالضحايا، لمجرّد أنّ الكارثة حدثت في إحدى بقاع الشرق الأوسط، متناسية أقلّ درجات الإنسانية والتعاطف مع كارثه بهذا الحجم. ربما، كعادتها كان هدفها جذب الأنظار إليها، كما حاولت مسبقاً إثارة سخط وغضب المسلمين بتحقير مقدساتهم عمداً، دون سبب واضح سوى التطرف والكراهية.
وكعادة المسلمين، يشبعون قلوب كارهيهم بغضبهم وثورتهم، يعترضون بأعلى أصواتهم على هذا التجاوز، غير مدركين أنّ غضبهم يسعد الطرف الآخر، وأنّ محاولتهم طلب اعتذار أو عقاب هو أفضل سبل الدعاية والشهرة لتلك الصحيفة المتطرّفة وأمثالها.
العقليات الاستعمارية ما زالت حيّةً في الغرب، تنسب لنفسها القدرة على إرسال دبابات وإقامة حروب، أعفتهم منها كارثة طبيعية
وعادة ما تكون النهاية بصمت المسلمين رغم حنقهم، وتبرير القيادات لما حدث بأنه "حرية تعبير" مكفولة للجميع، وبنيل تلك الصحيفة وأمثالها ما تسعى إليه من شهرة، ثم لا تلبث أن تعود مرّة أخرى، سواء بكاريكاتير أو حرق مصحف أو غيره.
هذه المرّة، الكاريكاتير لا علاقة له بالإسلام، بل هو تجاوز لكلّ قيم الإنسانية لدى كلّ فرد، هو تشفّ في موت وتشرّد وخوف مدنيين وأبرياء، وبينما العالم يبكي لأجلهم، لم يستطع هؤلاء المتطرفون كبح تشفّيهم وإخفاء سعادتهم لما حدث، معلّقين على الدمار بقولهم "لا داعي لإرسال دبابات الآن".
قرأت الجملة عدّة مرّات قبل أن أصدق أنها كُتبت ونشرت تعبيراً عن كارثة كالتي بين أيدينا، وتساءلت: كيف لأحدهم أن يُضمر كلّ هذا الحقد تجاه مدنيين أبرياء في مُصابهم؟ وكيف لشخص سوي أن تصيبه حتى أقل درجات الراحة، وهو يرى غيره يعاني فقد كلّ عزيز عليه؟ كيف لفعل كهذا أن يُنشر باسم حرية التعبير؟ هل حرية التعبير مكفولة للمتطرفين؟ هل هي مكفولة حدّ التشفي من أبرياء وقت مصابهم؟ كيف لأحدهم أن يبتسم لكاريكاتير كهذا، ويعتبره دهاءاً وحنكة وجدت سبيلها للعلن؟ كيف يظلّ مؤيداً لصحيفة كتلك، سوى متطرف فقد أدنى درجات التعاطف؟
هذه المرة، لم يكن فعل الصحيفه تجاوزاً في حق المسلمين بل الإنسانية، ويشير فعلها هذا إلى أنّ العقليات الاستعمارية ما زالت حيّةً في الغرب، تنسب لنفسها القدرة على إرسال دبابات وإقامة حروب، أعفتهم منها كارثة طبيعية.
ولا يمكن لنا سوى الصمت وإفساح المجال لهم ليعيشوا حريتهم ويسعدوا ما دامت أرضهم لم تهتز تحت أقدامهم، فالبيوت ستبنى، والأحياء ستقام مجدداً، وسيشفى المصابون بمساعدة الأسوياء في هذا العالم، ولكن مُصاب الكارهين وحظّهم من فساد القريحة أقوى من أي كارثة طبيعية.