زمان الكذب
عبد الحفيظ العمري
لو تساءلنا: ما هي السمة المميِزة لهذا الزمان الذي نعيش فيه؟ لكانت الإجابة هي الكذب.
فنحن في زمنِ الكذب الصريح، بل الوقح والصفيق، كذبٌ يمارسه الكل بلا استثناء. ولو تلفتّ حولك، ستجد الكلّ يمارس هذا الفعل المضارع المقيت؛ رئيسك في العمل يكذب لكي يظلّ في منصبه، وزميلك يكذب لينال حاجة سريعة، والمجتمع يكذب لأنّ الساسة علموه هكذا، والحكومات المتوالية تكذب لتطيل بقاءها، مع علمها أنّها ستذهب كما ذهبت من قبلها، والدول تكذب لأنّ الساسة يكذبون، وما السياسة إلّا باب الكذب العريض!
صار الكذب أداة مستساغة للجميع، يستوي في ذلك المتدين مع الماجن. أمّا آلات الكذب الوقح، فهي وسائل الإعلام بكلِّ أشكالها؛ إذ تشاهدها تحرّف كلّ شيء عن حقيقته، أو تدسّ السم في العسل.
كلّ هذا لماذا؟
لأنّ وسائل الإعلام هي لسان السياسي، وعصاه التي يهشّ بها على عقول متابعيه. فهل سمعت بسياسي، سواء أكان فرداً أم جماعة أم حزباً، بدون آلة إعلام ترّوج لفكره وتزيّنه للناظرين، وتزخرف كذباته؟ لا تصدّقْ أنَّ هناك إعلاماً محايداً، الإعلام يخدم مموّله دائماً. فما بالك لو كان المموّل دولاً؟
وزادت التكنولوجيا الحديثة من ضخامة التدليس الذي تمارسه وسائل الإعلام، وها هو الذكاء الاصطناعي ينضم إلى جوقة المدلسين. ولذا علينا أن نستعدّ لزمان الكذب المُتقن الصنع، والذي يدع الحليم حيراناً، فها قد انفتحت أبوابه للكاذبين، فهم من كلِّ "قناةٍ" ينسلون، وطوبى للصادقين الغرباء في هذا الزمان!
أمّا التدليس في منطقتنا العربية فقد مُورس منذ زمن بعيد، أيام كانت الدولة تُمسك بكلّ أدوات الإعلام وتموّلها وحدها بلا شريك؛ فمرّرت ما تريد، وصنعت وهماً من أكاذيب، وقلبت حقائق وأخفت أخرى.
تبخّرت كلّ البطولات العربية الخفنشارية، وكأنّ أبطالها من ورق
وإليكم عينة من ذلك؛ فنظرة على مسلسلاتنا وأفلامنا السينمائية التي مجدّت أنظمة دولنا العربية في زمان المواجهة مع العدو الصهيوني، خصوصاً في عقد الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، تأتيك بالأخبار بما لم تزوّدِ؛ فقد كانت تلكم الأعمال التلفزيونية مجرّد مخدّر لعقولنا حتى لا نشاهد الحقيقة.
أيّة حقيقة؟
حقيقة هشاشة دولنا العربية، وكذب قواتنا المسلّخة (بالخاء)، التي تمّ إظهارها وهي تخوض مغامراتها التلفزيونية بكلِّ فروسية وشجاعة ودهاء، كما شاهدنا في مسلسلات "رأفت الهجان" و"دموع في عيون وقحة" و"الحفّار" و"الثعلب" وغيرها... لكن على أرض الواقع وفي لحظة الصدق، تبخّرت كلّ تلك البطولات الخفنشارية، وكأنّ أبطالها من ورق، بل لا وجود لهم.
في حين ها هم الرجال على أرض الرباط يصنعون ما لم تصنعه جيوشنا العربية التي نراها في كلِّ استعراض عسكري بكلِّ هيبتها الخنفشارية، ولم يعد هناك استغراب فقد أدركنا مع مرور الأيام أنّ وظيفة تلك الجيوش هي تثبيت كراسي حكامنا الأشاوس والضرب بيدٍ من حديد على كلِّ مَنْ تسوّل له نفسه منافستهم من شعوبنا المغلوبة على أمرها.
حجم الكذبة كبير، وعملت آلة الإعلام المزوِرة لكلّ حقيقة على تضخيمها. بيد أنّ التساؤلات الواجب الإجابة عنها في لحظتنا الراهنة والفارقة هي: هل تصمد دويلاتنا، دويلات فقاعات الهواء التي نعيش فيها، مجازاً، أمام العدو القادم من خارج الحدود؟ وهل ستجد دولنا، دول الملح، أيَّ سندٍ تكنولوجي أمام تكنولوجيا العدو المتطوّرة؟ أم سنندب حظنا مع كلِّ انكسارِ يحدث في كلِّ دولة؟
وظيفة الجيوش العربية تثبيت كراسي حكامنا الأشاوس والضرب بيدٍ من حديد على كلِّ مَنْ تسوّل له نفسه الاقتراب من الكرسي
لا أظن أنّ أيّ صاحب عقل رشيد يجهل مآلات ما يجري، ولا يحتاج الأمر إلى كتيبةٍ من المحللين السياسيين الذين تستعين بهم قنواتنا الفضائية، فالأمر ببساطة هو صراع حضارات ومعركة طويلة الأمد بين توارتيين متطرفين، تسندهم أنظمة الغرب الاستعمارية، وقبائل العرب التائهين في دنيا اليوم، والمتشرذمين على رقعة جغرافية تسمّى "الوطن العربي".
وليت أنّ قبائلنا العربية اليوم تملك شيئاً من حكمة العرب الأوائل التي اجتمعت في موقعة ذي قار، بل هي على النقيض من ذلك تماماً، فقد زاد تنافرها من دون أيّ استبصار للسيل العاتي والجارف الذي يتدفق نحو الجميع، في مفارقة درامية لا تقرأ مثلها في أسوأ الروايات الدستوبية على الإطلاق.
وصدق الشاعر أحمد مطر، حين قال:
نحنُ شعوبُ الزنزاناتِ الكبرى
وجيوشُ الاستعراضاتْ
وملوكُ التفويضِ القَبَلِي
وملوكُ الجمهوريّاتْ
نحنُ حواةْ!
فوق حبال الحاكم نلعب ((أكروبات))
نُدخِلُ في السلّةِ أدمغةً
ونُطيّرُها ببغاوات!