ست الحاجّة مصر
كلهم كانوا ينادونها: "يا ست الحاجّة".
أبناؤها وأبناء إخوتها وأحفادها وجيرانها، حتى إخوتها كانوا ينادونها: "يا ست الحاجّة".
ليس لأنها كانت أكبر سيدات العائلة، بل لأنها كانت الأكبر مقامًا والأكثر هيبة وطيبة وحنانًا، سيدة من اللواتي توقف خط إنتاجهن منذ سنوات طويلة، تلك السيدات المستحيلات اللواتي استطعن بمفردهن إنجاب وتربية وتعليم وتأهيل واحتضان جدعان وجمالات وبهوات وهوانم عقبال أمالتك دون شكوى أو تذمر أو محكمة أسرة أو كوافير أو خروجات.
كانت ست الحاجّة نموذجًا مشرفًا وذهبيًّا للأم المصرية التي تطبخ وتكنس وتربّي وتكبّر وتسبّح وترتق الخروق مهما اتسعت على الراقع، وتمسح الشقة وأحزان مَن في الشقة وتدلع وتقسى وتهاتي وتدادي وتراعي وتداوي وتزفّ العريس تلو العريس والناجح تلو الناجح، تُخرج أبناءها إلى بيوتهم سعداء هانئين وتقفل بابها على نفسها سائلة الله الصحة والستر وحُسن الختام.
كل هذا كانت تفعله دون أن تطلب شيئًا من أحد، لم يخرج من تحت يديها إرهابي أو خمورجي أو برشامجي أو عاطل أو منحرف أو فاشل أو ممرور، بل أخرجت لمصر أبناء وبنات زي الفل دون أن تطلب من حُكام مصر معروفًا أو جزاء أو شكورًا، بالطبع هم لم يعرضوا عليها شيئًا فرفضته، هم ليسوا مهتمين بها أصلًا، فهم مشغولون ببيع مصر في المزاد ليس لمَن يدفع ثمنًا أكثر، بل لمَن يدفع عمولة أكبر حتى لو دفع ثمنًا أقل، هم مشغولون بتأمين مستقبل أبنائهم وأحفادهم والحرص على ألا تُفتح ملفات فسادهم واستبدادهم ومظالمهم يومًا ما، كيف إذن لست الحاجّة أن تكون همًّا لديهم وسط كل هذه الهموم الجِسام التي تشغلهم.
هل كانت ست الحاجّة تريد الكثير؟ لا والذي خلق الخلق، هل كانت تريد ميدالية أو تكريمًا أو شهادة تقدير من المحافظة أو مصافحة حانية من السيد الرئيس الأب أو حتى ظهورًا تلفزيونيًّا مع طارق علام؟ لا والله، لم تكن تريد شيئًا من كل هذا، هل كانت تريد أن تعالَج على نفقة الدولة؟ لا ورب العزة فأبناؤها الذين أكرمها الله فيهم مستورون ولا يريدون من هذه الدولة سوى أن تكفيهم شرها وفسادها وظلمها. ست الحاجّة كانت تريد فقط أن تُعامَل كإنسانة. كانت تريد من مصر أن تحفظ لها كرامتها في كبرها ومرضها وعجزها، كانت تريد سريرًا في مستشفى محترم بفلوسها والله، وليس تفضلًا أو عطفًا من أحد، ست الحاجّة كانت تريد أن تمسح مصر قليلًا على رأسها، خاصة أنها لم تسمع كلمة حلوة من مصر طيلة عمرها، ولم تر منها أبيض بينما رأت هي وأبناؤها أسود كثيرًا.
صبرت ست الحاجّة كثيرًا على بلاوي الدهر شأنها شأن كل أم صابرة في هذا البلد المبتلى بالحرامية، شافت أهوالًا وأشكالًا وألوانًا وخلقًا ما يعلم بيها إلا ربنا، وتحملت كثيرًا، لكن الحمل زاد في هذه الأيام الغبراء فأصابتها جلطة في المخ، سارع أبناؤها إلى نجدتها سائلين الله أن يلطف بها ويبقيها لهم، تفاءلوا بما سمعوه عن الفكر الجديد الذي أتى بوزير صحة سيجعل من مستشفيات مصر الحكومية قلاعًا للطب وواحات للشفاء، فكروا في الذهاب إلى أفخم مكان تدّعي الحكومة أنها توفره لمواطنيها؛ القصر العيني الفرنساوي الذي لطالما صدعهم الإعلام الرائد سابقًا الشفاف حاليًا بكونه مفخرة صحية لحكم البنية الأساسية المباركة، هرعوا إليه وآمالُهم في شفائها تسبقهم، وكلهم استعداد لأن يدفعوا كل ما يتطلبه العلاج من تكاليف، ولو كانوا يعلمون ما سيحدث لهم هناك لما ذهبوا، تخلُّف إداري وطبي لا مثيل له، دكتور يقول لهم إن ست الحاجّة تريد أشعة مقطعية، وآخر يقول لهم مَن الذي قال لكم هذا؟ لا تحتاج أشعة مقطعية أبدًا، إداري يقول لهم ليس هناك سرير خالٍ لها، وإداري آخر يوحي لهم أن المسألة تحتاج إلى وساطة، وثالث يشخط ورابع ينطر.
ليس على أحد منكم أن يفكر في أن يصرخ من همه وغُلبه ويسأل لماذا يرخص الإنسان في هذه البلاد وقد كرمه الله وفضّله على جميع مَن خلق، ليس على أحد منكم أن يطلب تحقيقًا مع من قصّر وأهمل وفسد وأفسد
كل هذا وست الحاجّة ترقد مشلولة عاجزة عن الحركة على سريرها ذاهلة عمن حولها، دون أن تنتظر الخوانة من مصر التي أعطتها نور عينها، أبناء زي الفل يتحلقون حولها لا يملكون دفعًا ولا صرفًا مع أنهم لو طلب منهم أن يدفعوا ويصرفوا لفعلوا، لكنهم وقعوا أسرى وحوش يتعاملون مع البشر على أنهم حالات، ذهبوا يستنجدون بأطباء فوجدوا موظفين يختفون مع حلول الثانية ظهرًا، لا يمكنك الإمساك بأحدهم إن أردت، فهناك دائمًا حجج غياب وأعذار اختفاء، كل ما عليك أن تصبر وتضع نفسك تحت رحمة رغباتهم وأمزجتهم، إن علا صوتك بعد أن نفد صبر أيوب وجدت مَن يتهمك بالهمجية والتخلف ويلفت انتباهك إلى أنك «عيب في مستشفى»، وإن ذهبت تبحث عن متخذ قرار ينتشلك من ورطتك لم تجد أحدًا يعطيك «عُقّادًا» نافعًا. أنت هنا في أحطّ نموذج لِما صارت إليه مصر على يد الحزب الوطني المبارك، أنت الآن في قلب المزبلة التي ظلت تستقبل النفايات والقاذورات طيلة أزهى عصور الإنجازات، أنت الآن تشاهد أبناء شعبك وهم يقهرون بعضهم البعض، تشاهد الناس وهم يسيرون من حولك صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، المفروض أن الناس هنا أفضل ألف مرة من مستشفيات الفقراء، فهم على الأقل يمتلكون ثمن العلاج، يستطيعون أن يسلكوا أمورهم ويشتروا للمستشفى ما ليس به من معدات أو أدوية، احمد ربنا أنك لم تضطر لدخول الشر بره وبعيد أم المصريين أو إمبابة العام أو الزقازيق العام أو بني سويف العام أو غيرها من السلخانات البشرية التي يمتلك الفقير المضطر لدخولها من الواقعية ما يجعله يسأل الله عزوجل ألا يُعجّل بشفائه، بل أن يُعجّل له بلقائه ويرحمه من غُلبه.
عليك وأنت وسط الرخام الذي صار عنوانًا لهذا العصر السعيد أن ترحم عقلك من الإجابة عن ألف مليون سؤال تتدافع إلى عقلك: «أين هي المشكلة في مصر الآن؟ لماذا يتصرف الناس بكل هذه البلادة والعدوانية والوحشية مع بعضهم البعض وليس مع السلطة التي تستحلّ دماءهم وأموالهم؟ هل نحن مسلمون حقًّا؟ لماذا تمتلئ حوائطنا بلافتات: فداك أبي وأمي يا رسول الله بينما نحن نستحق لعنات الله ورسوله لأننا نطحن بعضنا بعضًا وننهش لحم بعضنا بعضًا ونستحلّ أموال بعضنا بعضًا؟ هل نحن حقًّا بخير؟ إذا كنت وأنا قادر ومستور أتعرض لهذه المهانة فماذا يفعل الفقير المُعدم إذًا؟ هل يأخذها من قصيرها وينتظر الموت أو يبادر إليه؟ هل أصبحت المشكلة في فساد الرأس أم أن الجسد كله قد فسد؟ هل وهل ولماذا ومتى وإلى أين».
لم يحتمل أبناء ست الحاجّة وأخواتها مرارة هذه الأسئلة فاشتروا أنفسهم وسارعوا بالخروج من مستشفى الحكومة الفاخر المتميز الرائد الفرنساوي العيني التاريخي المبارك، حاملين روحهم الراقدة ألمًا وهمًّا وذهولًا على سرير المرض، وطائرين بها إلى مستشفى أستاذ دكتور شهير كبير عظيم "بيطلع في كل البرامج" استثماري تخصصي ذي شنة ورنة، وملعون أبو الفلوس، المهم أن يبقيها الله لهم ويُعجّل بشفائها لتضيء لياليهم بابتسامتها حتى وإن كانت ابتسامة هدتها الأيام، الوضع هنا مختلف طبعًا، الابتسامات عريضة والكل يتسابق من أجل المريضة، هذا بفتح غرفة فاخرة وذلك بتوفير إسعافات لازمة ودوكهمّه بفتح ملف في الحسابات والدعاء للمريضة بالشفاء العاجل والتذكير بأسعار المستشفى من باب إن الذكرى تنفع المؤمنين، وما دام العربون حاضرًا والفلوس آخر حاجة تهمّنا، إذن على الجميع أن يطمئن، الحالة مستقرة وزي الفل، وإن شاء الله كله تحت السيطرة، ناموا وروّحوا وارتاحوا فأنتم في أيدٍ أمينة، ليس هناك داعٍ لأن تبقوا جميعًا معها، فالله معها ونحن معها، حلوا خلافاتكم حول مَن سيبقى في هدوء، وليذهب الباقي للراحة بعد المذلة والمهانة التي وجدتموها في حضن الحكومة الدافئ المبارك، وفي الصباح عليكم أن تسألوا الله الصبر وأنتم تتلقون المكالمة التي ستختبر إيمانكم بالله ورضاكم بقضائه وتسليمكم بالنصيب الغلاب، وليس على أي منكم أن يعترض أو يسأل ازاي أو ليه أو منين قلتوا إنها كويسة، هل تكفرون بالله لا سمح الله؟ عليكم الآن أن تبادروا بالدفن؛ فإكرام المواطن المصري دفنه، والنهار بيخلص بسرعة في مصر عكس الليل فيها لا ينجلي، لا تفكروا فيما حدث أو لماذا حدث، فكّروا أين ستدفنون وأين ستأخذون العزاء، لا تطلبوا الدكتور المشرف على الحالة ليقدم لكم تفسيرًا علميًّا لما حدث، بل اطلبوا أقرب حانوتي إلى المستشفى وما تيسر من عربيات الأقارب والأصدقاء، لا تسألوا عن السبب، بل اسألوا الله الرحمة والمغفرة وأن يرزقكم موتة تموتون فيها و"وشّكم منوّر" زي ست الحاجّة ، شوفوا ما شاء الله ازاي وشها منور، كأنها فرحانة أنها تركت البلد لحكامها وزبانيتهم وإعلامهم وصحفييهم وموالسيهم وجلَّاديهم ومماليكهم البحرية والبرية، حد يطول يموت في هذه الأيام المفترجة، ليس مُهمًّا مفترجة لماذا فكل الأيام لدينا مفترجة.
ليس على أحد منكم أن يفكر في أن يصرخ من همه وغُلبه ويسأل لماذا يرخص الإنسان في هذه البلاد وقد كرمه الله وفضّله على جميع مَن خلق، ليس على أحد منكم أن يطلب تحقيقًا مع من قصّر وأهمل وفسد وأفسد، فقد جعلنا الله في هذه البلاد أسبابًا في موت بعض وذل بعض وهمّ بعض، دعونا الآن نركز في معركتنا مع الدانمارك ونحفظ جيدًا أرقام منتجاتها التسلسلية، لا تجعلوا شيئًا يلهينا عن حربنا ضد أعداء رسولنا الكريم، حتى لو كنا نموت واحدًا تلو الآخر من الفقر والفساد والاستبداد، فنحن نموت نموت لتحيا المقاطعة، لا يفتحن أحد منكم سيرة الضمائر الخربة والذمم الفاسدة والقلوب الميتة، كل شيء بخير، لا تتشاءموا ولا تهنوا ولا تحزنوا فمصر تشهد روحًا جديدة تجلت في مدرجات الاستاد واللجان الانتخابية ومسرح بني سويف وبرامج التوك شو وندوات الروتاري.
ربما خسرنا ست الحاجّة، لكن لا زال لدينا عشرات السيدات الفاضلات في المجلس القومي للمرأة والأمومة والطفولة والكهولة والعفونة، صحيح أن ست الحاجّة قد ماتت، لكن لا تركزوا على النصف الفارغ من الكوب، انظروا إلى النصف الملآن، لقد تركت ست الحاجّة مكانًا لمريض مصري لكي يموت هو الآخر، وربنا يعطي حكام هذه البلاد الصحة وطولة العمر لكي يقضوا عليكم مواطنًا تلو الآخر ويتكفلوا لكم بحُسن الختام والحياة السرمدية والسلام الأبدي.
آآه يا رب يا ذا الجلال والإكرام يا من لا تجوز الشكوى لغيرك، اللهم ارحم ست الحاجّة وأسكنها فسيح جناتك، وألهم أهلها الصبر والسلوان، وأفِض عليها من رحمتك وحنانك ما تنسى به قسوة ظُلّام عبادك، ولا تكتب على ضعيف أو فقير أو مريض أو صاحب حاجة أن يحتاج أبدًا لمن خربت ذممهم وماتت ضمائرهم، وارزقنا جميعًا الصحة والعافية لكي لا نتذلّ في هذه البلاد التي نسألك أن تلطف بنا فتعجل بشفائها ممن كتبت عليها أن تبتلى بهم، وأن تُحسن ختامها فنحن نحبها ونعلم أنها لن تهون عليك وفيها من يعبدك ويحبك ويخافك، وفيها أولياؤك الصالحون وآل بيت نبيك عليه الصلاة والسلام، أملنا كبير في نزول رحمتك على ست الحاجّة، وعشمنا أكبر في نزول فرجك على ست الحاجّة.. مصر.
...
فصل من كتابي (ست الحاجّة مصر) الذي تصدر طبعة جديدة له قريباً بإذن الله. نشرت هذه السطور لأول مرة في عام 2006، وكما ترى لا تزال صالحة للنشر مع الأسف الذي يتعاظم ويزيد حين تدرك أن نشرها في صحف مصرية الآن أصبح مستحيلاً.