سقراط الصغير... حكاية الشهيد عودة صدقة
شهيد هنا، وشهيد هناك، أحدهم برصاصة في القلب، وآخر برصاصة في الصدر، وأحدهم يستشهد بسبب الركام المختلط بلون الدم، والذين يقول عنهم الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته "نفسي الفداء": "ويخرجون الجسمَ رغم تشابه الألوانِ، بين الرمل والإنسانِ، كالذكرى من النسيانِ، كالمعنى من الهذيانِ".
يغادرون مع آخر سحابة تغادر الصيف، ويعودون مع حبات المطر مع أول سحابة في الشتاء، تتغير الأماكن، ويتغير لون الحجارة، يجف الدم، ولكن تبقى الحكايات، حكاية شهيد جديد، لتفتح معها وجع جديد، في بيت جديد، ويبقى الرصاص، ويستمر الشهداء، ليتكامل الوطن.
يسأل التاريخ كيف يموت طفل هكذا، ويرحل وهو يحمل معه قضية تكبره ليس عمراً، أو جسداً، بل فكراً، ودماً، ويتنازل هذا الطفل، هذا الشهيد عن أحلامه، وطموحاته، وآماله، وأفكاره الصغيرة ذات المعنى الكبير، وعن دراجته الهوائية، ولعبة الغميضة، من أجل تلك المساحة التي بين جدار الفصل العنصري وشجرة الزيتون.
تلك المساحة التي كانت تعني له "الوطن"، هو لا يفهم هذه المساحة بهذا المعنى، بل بمعنى ساحة اللعب، اللعب مع القطط، ربما هنا كان يتمنى أن يكون ملعب صغير يمارس عليه هوايته في كرة القدم، ويعود التاريخ ليسأل على لسان الشاعر مظفر النواب بمنطق آخر": "كيف يحتاج دم بهذا الوضوح، إلى معجم طبقي لكي نفهمه؟".
يأتي نبأ الرحيل كما القافلة المحملة بأجساد المهجرين من قرية لفتا، التي تكون مليئة برائحة التراب ما بعد المطر لأنها تعني لهم الأرض والفلاح، وتكون السماء لحظة إعلان النبأ كثوب الحداد، ولا تبوح بصمتها سوى بالموت، ودموع أم أطلق الاحتلال رصاصة على ذكريات طفلها، خصوصاً تلك الذكرى الأولى عندما جاؤُوا به قطعة لحم وقبلته على سرير المشفى وقالت: أريد أن أطلق عليه اسم "عودة"، هذا طفلي، فلذة كبدي، ووجعي تسعة أشهر، أريده أن يركل الحياة كما كان يركل بطني، ويخرج منها بطلاً كما خرج من رحمي، وقد صدقت النبوءة وها هو يخرج شهيداً.
يرفض الوطن الخروج من "عودة"، كأنه وعاء من القهوة يغلي فوق النار، وتقف القهوة على طرف الوعاء أمام "عودة" مثلما تقف اتفاقيات السلام عاجزة عن ترسيم الحدود
يرفع الناس الدم الذي لم يسقط هدراً على أكتافها، يبكي أهالي القرية بسبب الصمت عن حياد الدم، تبدأ الهتافات، ترتفع كأنها ضربات بيتهوفن على المسرح، الذي يضرب بيديه على الطبل، ويرفع يديه في وجهة السماء، يستفز الجمهور، ويعود يصمت، ينظر إلى نوتاته ويصرخ من جديد ضارباً لحن العودة إلى التراب.
يقول لنا الشهيد عودة صدقة، الطفل الذي استشهد على أرض قرية المدية في 2 يونيو/ حزيران: "لا تقعوا في حب السلطة، بل عليكم الوقوع في حب المقاومة"، لأنها وحدها الأخيرة التي قادت الخطاب إلى الفعل، يُشعرنا عودة أنه كان يفهم ماذا يفكر ميشيل فوكو، لأن هناك فرقا بين الموت وذاتك تلهث خلف السلطة، والموت وأنت حامل بيديك بندقية تلهث معها خلف وطن، حتى لو كان هذا الوطن دراجة هوائية كمان كان يعرفه عودة..
ويقول أيضا: علينا قول الحقيقة الجارحة حتى لو كان مصيرنا الرصاص، فالدفاع عن الحقيقة لا يجوز بالكلمات، لأن الكلمات لا تقيم أوطانا، فالديمقراطية الإنسانية ثمنها الموت، ولكنه لم يكن يقولها هكذا بل كان يصرخ بملء حنجرته: "بابا بدي مسدس بلاستيكي خرز عشان ألعب فيه، بابا اليوم العيد"، تلك ديمقراطيته الطفولية والإنسانية، وهكذا كان يعلن الاحتجاج عليها بكل براءة، كأنه يقول لنا: أنا سقراط الصغير سوف أموت داخل زنزانة طفولتي التي صنعها الاحتلال في سبيل الحصول على ديمقراطية لعبتي.
يرفض الوطن الخروج من عودة، كأنه وعاء من القهوة يغلي فوق النار، وتقف القهوة على طرف الوعاء أمام عودة مثل ما تقف اتفاقيات السلام عاجزة عن ترسيم الحدود السياسية لوطنه لأن حرارتها منخفضة، وتصرخ أمه عليه وتقول له: لا تجعل القهوة تسقط من الوعاء ويصبح المكان مليئا بالأوساخ، وبرأسه يسأل: لماذا لا تقولين لي قم برفع حرارة النار تحت الوعاء كما ترتفع حرارة المقاومة؟ لأن هذا البلد مليء بـ"الأوساخ" السياسية، أنتِ يا أمي كان عليك أن تعلميني كيف أقوم بصناعة القهوة دون "أوساخ"، كما يتعلم المقاوم على البندقية قبل الهجوم، أو كما أتعلم قواعد لعبة "الفوتبول" قبل أن يأتي "الجول".
هو الرحيل الأخير للطفل عودة، الرحيل الذي يستفز الحكاية بداخلنا، فمثلاً أيها القارئ، أو أنت أيها المحرر، عليك إدراك شيء: مع كل شهيد طفل يذهب إلى نقطة، إلا عودة، تتكسر حكاية شقيقي الشهيد بداخلي، تتناثر مثل قطع الزجاج على الأرض، أقفز كالمجنون أقوم بوضعها على الطاولة، لإعادة ترميم الحكاية حتى لا تندثر رغم الجروح الذي تسببه قطع الزجاج، ولكن أبدأ أكتب وأنا أستمع لأبي عرب وهو يغني:
أطفال نزلت على الحارة تتحدى العدا بحجارة
أطفال نزلت على الشارع تتحدى أصوات المدافع
والعالم أطرش مش سامع.. يا عالم شو هالجسارة..