سلمون يزور المقبرة في العيد
كان ثمة إجماع بين الأصدقاء المواظبين على سهرة الإمتاع والمؤانسة (يشبه الإجماع الذي يحصل في مجلس الشعب السوري) على أن الحكايتين اللتين سمعوهما في العيد جميلتان، ومسليتان، ولكن مناسبة العيد يجب ألا تُبعدنا عن سيرة الفتى الأحمق سلمون الذي حكينا بعض حكاياته، وعرفنا كيف يسبب لوالده ولمعلمي مدرسته مشاكلَ طويلةً وعريضة.
لاحت على وجه كمال ابتسامة بهيجة وقال: إنتوا بتعتقدوا إنه سلمون ما له علاقة بالعيد؟ أنا بعرف حكاية عن سلمون جرت في أول أيام العيد.
أبو محمد: والله أنعم وأكرم. وأشو منتظر؟ تفضل احكي لنا إياها.
كمال: أبو سلمون ما بيحب زيارة المقبرة في صباح العيد، ولما حدا بيسأله عن السبب بيحاول يغمغم، وما بيعطي جواب شافي. ولكن الفتى الخبيث سلمون، في يوم من الأيام حط أبوه في مأزق.. أجا ع البيت في ليلة الوقفة، وقال لأبوه: ياب، الليلة لازم تنام بكير، لأن الصبح بدنا نفيق الساعة سبعة ونروح أنا وإنته ع المقبرة.
أبو سلمون اندهش، وقال لسلمون: بدنا نروح عالمقبرة؟ يعني حضرتك آخد قرار.
سلمون: لا والله يا ياب، ماني آخد قرار، بس إنته لازم تكبر عقلك وتروح. هيك ما بيصير.
ووسط دهشة أبو سلمون وذهوله قعد سلمون يشرح له إنّ وضع المقبرة في السنوات الأخيرة تغير كتير، وأن الإنسان اللي بيغيب عن أي مكان، مدة طويلة، راح يتفاجأ بأشياء ما بتخطر عَ البال.
قال أبو سلمون: متل أيش؟
سلمون: على زمانك، لما كنت تزور المقبرة، كانت تقريباً عائلية، بيت فلان وبيت علان وبيت علاك البان، هلق بتلاقي عالمقبرة مجموعة طويلة فيها ناس مو من عيلة وحدة، هدول جماعة أمين الفرع..
قال سلمون وهو يتفصّح مثل رجل ناضج ذي خبرة حياتية طويلة: اللي بتعرفه إنته إنه صباح العيد بيطلعوا ع المقبرة ولاد العائلات الكبيرة والعائلات الزغيرة، وكل جماعة منهم بتوقف عند قبر الميت تبعها، وبيجوا الناس بعدين بيصافحوا بعضهم وبيقولوا كل عام وأنتم بخير، وبعد شي ساعة زمان كل عيلة بتركب السيارات تبعها وبترجع عالبلد.
أبو سلوم: أي هاد اللي بعرفه. من خمسمية سنة، أو من ألف سنة، ولهلق، هيك بيصير.
سلوم: من ألف سنة ما كان فيه بعثية في البلد يا ياب. إنته ما بتعرف إنه البعثية عملوا ثورة واستلموا الحكم في البلد؟
وقف شعر أبو سلمون، وكان جالس وَقَّفْ، وقرب على سلمون ومسكه من خوانيقه، وصار يشده ويقول له: عم تحكي بالسياسة ولاك إبن الكلب؟ أنا كم مرة قلت لك ممنوع تحكي بالسياسة؟
سلمون: بصراحة يا ياب إنته عم تخلط عباس في دباس. أنا هلق حكيت بالسياسة؟ لا والله، ما حكيت. عم بحكي عن العيد وزيارة القبور. بعدين هالمَرَا الطيبة والدتي، اللي عاشت معك عالحلوة والمرة، وكانت تغسل لك قمصانك المأنشحة، وتطبخ لك وتنفخ لك، وخلفت لك هالولد اللي متل طربون الحَبَق، يعني أنا ياب، ما بتستاهل تروح على سور الثانوية وتقطف باقة زهر وتاخدها وتحطها على قبرها ويجوا هالناس يسلموا عليك وعلى إبنك ويقولوا لكم كل عام وأنتم بخير؟ طول بالك، لا تجاوب، لأني لسه ما خلصت حكي.. إنته يا ياب مو بس ما بتزور والدتي وبتحط لها زهر على قبرا، كمان كل يومين والتالت بتروح على بيت من هالبيوت وبتشوف شي أرملة وبتخطبها، كأنك فرحان إنها ماتت وحلت عن طرفك.
نفخ أبو سلمون نفخة بتحرق بيدر وقال: عطيني من الأخير وقلي.. هدول اللي حكيت عنهم، قصدي الرفاق البعثية أشو علاقتهم بالمقبرة؟
سلمون: على زمانك، لما كنت تزور المقبرة، كانت تقريباً عائلية، بيت فلان وبيت علان وبيت علاك البان، هلق بتلاقي عالمقبرة مجموعة طويلة فيها ناس مو من عيلة وحدة، هدول جماعة أمين الفرع.. وهدول لازم الكل يمروا عليهم ويعزوهم بالميت تبع الرفيق. في واحد من بلدنا بيشتغل كاتب في فرع أمن الدولة، هادا الزلمة كمان عامل مجموعة، وبيجوا الناس بيعيدوه، وأبو رستم، اللي من زمان راح ع الشام وصار معاون مدير عام شركة "شَحَّاطات حَبُّوبا" كمان إله جماعة وبيوقفوا عند قبر الميت تبعه وبيعايدوه. بعدين ياب، على فكرة، أنا بَلَّغْت كل قرايبينَّا، بدهم يطلعوا بكرة الصبح، والكل راح يتجمعوا عند قبر والدتي، لأن إنته ما شاء الله، صرت كبير العيلة، الكبار بعيلتنا كلهم ماتوا والحمد لله. ولما سألوني قرايبينَّا إنه ليش نوقف عند قبر أمك وهي مَرَا، لازم يكون قبر زلمة، أنا قلت لهم أبوي اللي هوي كبير العيلة آخد قرار حاسم إني لازم نوقف عند قبر زوجته، والسبب إنه كتير كان يحبها، وزعلان عليها، وكلما إجا العيد بيقعد وبيبكي متل الولاد الزغار، وحالف يمين بالطلاق بالتلاتة إنه طوال ما هوي عايش ما بيتجوز عليها!
أبو سلمون (بذهول): هيك قلت لهم؟
سلمون: عم إضحك عليهم، خليهم يفكروا إنك ما راح تتزوج، وبكرة لما تتزوج أم حمودي بتصير لهم مفاجأة حلوة.
أبو سلمون: ولاك. أنا مو منبه عليك ما تجيب سيرة أم حمودة؟
سلمون: لازم نجيب سيرتها، أصلاً روحتنا ع المقبرة بكرة كلها راح تصير كرمال أم حمودة. ياب، السنة الماضية، متل هالأيام، مات عبد الجبار خالها لأم حمودة، وهيي كتير زعلت عليه، وأنا مرة كنت عم إتمشى في المقبرة أنا ورفيقي أحمدوني وشفتها قاعدة جنب القبر وعم تبكي، استنيت لحتى خلصت وسلمت عليها وقلت لها البقية بحياتك.. ومن حديث لحديث أنا وهيي فهمت منها إن وفاة خالها هيي السبب اللي خلاها ترفض الزواج منك. وقالت لي: خالي يا سلمون حرق قلبي. والله ما بتجوز قبلما يمر سنة على وفاته. فاتفقنا أنا وهيي إني نمر أنا وإنته عليها بكرة، عند قبر خالها، ونعزيها، وهيي بوقتها كتير راح تحترمك وتوافق عليك. بتعرف أيش قلت لها كمان ياب؟
أبو سلمون: الله ياخدك ويلحقك بعبد الجبار خال أم حمودة. أشو قلت لها؟
سلمون: مزحت معها، قلت لها: قولي الصدق وليك أم حمودة، زعلانة على خالك ولّا ع المرحوم زوجك؟ بوقتها ضحكت وقالت لي: يبعت لك الهنا يا سلمون، شقدك مشفتر. ياب، أشو معنى مشفتر؟
أبو سلمون: راح قلك أشو يعني مشفتر. بس استناني دقيقة.
وسحب حزام البنطلون وصار يجلد فيه إبنه المشفتر!