02 سبتمبر 2024
سمر رمضاني إدلبي (14)
الشهيد الثاني بياع المازوت
تابعت في سهرة السمر الرمضاني الأخيرة وقائع الملحمة التاريخية التي تمحورت حول شخصية بائع المازوت الإدلبي "أبو قدور" الذي أصبح مناضلاً بعثياً رغماً عنه..
في يوم من أيام الأسبوع الأول من نيسان "إبريل"، ذهب أبو قدور إلى قرية حارم المتاخمة للحدود التركية، ليشارك رفاقه البعثيين المناضلين الاحتفال بذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، وعاد من هناك محطماً، مقهوراً، غاضباً.
أسر أبو قدور لصديقه "أبو الناجي نعسان آغا" الذي زاره في البيت ليطمئن عليه بأنه تسرع بانتسابه لحزب البعث، وتسرع أكثر بذهابه إلى حارم، ثم صار يسب على الرفيق "مازن" الذي دخل في مناخيره مثل الشيطان الرجيم، وجعله يدخل عالم السياسة مع أنه على قولة المثل (لا هو من الطبل، ولا هو من الزميرة)، وانتهى إلى القول بأنه رافق البعثيين ليشارك معهم في محاربة الإقطاع، مع أنه لا يعرف ما هو "الإقطاع" أصلاً، ولا يوجد بينه وبين الإقطاع أية مشكلة، أو أزمة، يعني إذا زال الإقطاع أو بقي فهذا الأمر لا يؤثر على نعل صرمايته العتيقة التي اشتراها قبل عرسه الميمون قبل خمس وعشرين سنة، من دكان القندرجي "أبو سعيد بطل" رحمة الله عليه.
أبو الناجي: طيب احكي لنا، أيش صار معك في حارم؟
أبو قدور: من لما طلعنا في الباص واتجهنا لحارم أنا حسيتْ بالعَطب يا خاي، لأنه الرفاق اللي معنا صاروا يحكوا شغلات مو كويسة.
أبو الناجي: شلون يعني مو كويسة؟
أبو قدور، بصوت خفيض وكأنه يذيع سراً: كان في تنين منهم عم يحكوا بالسياسة! ومن كلمة لكلمة تزاعلوا، ووصلت الشغلة بيناتهم للشيطان الرجيم. واحد كان عم يقول إنه الرفيق (فلان الفلاني) مناضل كبير، في سنة 1964 جَمَعْ الفلاحين اللي بيشتغلوا في الأراضي الزراعية وقال لهم: كل واحد يوقّفْ جَنْبْ الأرض اللي بيشتغل فيها، وبعدما وقفوا قال لهم: خلص، هاي الأراضي صارت إلكُمْ، على مبدأ الأرض لمن يعمل بها. يعني فلان هوي اللي وجه ضربة قاضية للإقطاعيين. بتحسن تقلَي الرفيق فلان هلق وينُه؟ تآمروا عليه رفقاته وطالعوه بَرَّه.. قام التاني قال له: شلون يعني بَرَّه؟ رفاقه بعتوه عَ الشام وصار عضو قيادة قطرية، وصار يلبس طقم وكرافيتة، وبيركب سيارة خصوصية، وما بيحط حق البانزين من جيبه، حتى خصصوا له شوفير بياخد معاشه من الحزب. والحزب من وين بيجيب المصاري؟ من الاشتراكات، يعني قاعد في الشام وعم يركب سيارة خصوصية ع حسابنا نحن اللي مندفع الاشتراكات. إنته ما بتعرف ليش رفعوه ورَكَّبُوه سيارة.. بس أنا بعرف. الأولاني قال له: بالله بتعرف؟ طيب تفضل احكي لنا، نورنا. رد عليه التاني: يا سيدي هني رفعوه وحطوه في القيادة القطرية ولبسوه طقم وكرافيتة لأنه أَيَّدْ انقلابْ حافظ الأسد. التاني زعل منه وقال له: عم تقول انقلاب؟ الرفيق حافظ الأسد قاد الحركة التصحيحية المباركة اللي قضت على الإقطاع والرأسمالية والرجعية والعقلية الحزبية المناورة، شوف ولاك. علي الطلاق إذا مرة تانية بسمعك عم تقول إنقلاب لحتى أليحك بتقرير أخلي المخابرات يشحطوك شحط..
الخلاصة يا حبيبنا أبو الناجي، من هادا كلمة ومن هادا كلمة قام كل واحد منهم مسك بخوانيقه للتاني، وصار يشد عليه، ولولا تدخلنا نحن بيناتهم وقعدنا كل واحد منهم بمكان كانوا ارتكبوا جريمة.. بعدين صار كل واحد منهم يقول: بسيطة، بس إرجع ع إدلب، والله لإكتب فيه تقرير أجيب أجله.
أبو الناجي: طيب وبعدين؟
أبو قدور: بلا طول سيرة وصلنا على حارم، نزلونا من الباصات وفلتونا بالحارات، وصرنا نطالع صور حافظ الأسد ونرفعها ونركض ونصيح بالروح بالدم نفديك يا حافظ. يا خاي أبو الناجي، أنا بدي إسألك سؤال، بس بيني وبينك؟ مين هادا حافظ الأسد؟ وليش هالناس بيفدوه بالروح وبالدم؟ طيب إذا هني فدوه بالروح وبالدم، أنا ليش بدي إفديه؟ أساساً أنا ما بعرفه، ولا بعرف إذا كانّه زلمة كويس أو بشع.. بعدين شلون الواحد بيفدي التاني بالروح؟ آ؟ يعني أنا بدي أموت كرماله وهوي بيبقى عايش؟ أي فشر بعينه. طيب إنته ما بتعرف شلون ماتت مرتي أم قدور الله يرحمها؟ صار معها - بعيد من قبالي - مرض بالكلاوي، وقالوا لي بدنا نعمل لك تحليل حتى نشوف إذا بتحسن تعطيها كلية من عندك أو لأ. قلت له للدكتور الظاهر إنته خرفان؟ ولا مجنون؟ الدكتور تطلع فيني وصار يتأملني. قلت له: إنته مين قال لك إني بعطيها كليتي؟ قال لي: هيي بدها تموت. قلت له: إذا ماتت بيكون عمرها خالص. أشو أنا بدي أعطيها عمر جديد؟ وهاي يا أبو الناجي مرتي أم ولادي، بقى مين هادا حافظ الأسد لأعطيه روحي ودمي؟!
أبو الناجي: طيب مفهوم. وبعدين؟
أبو قدور: وبلشنا يا أبو الشباب نسب عالإقطاع، وما نشوف غير تلات شباب طلعوا لنا من دار عربية إلها باب كبير، وسحبوا علينا الجفوت والبواريد، وصاحوا فينا صوت خلونا نوقّع صور حافظ الأرض ونخشب. واحد منهم قال: تعوا لهون يا ولاد ستين كلب. ما بيكفي أخدتوا لنا أراضينا وبيوتنا لسه جايين تسبوا علينا؟ أنا تلفتت هيك وهيك في الزقاق ما لقيت ولا واحد من رفقاتي، وقررت إهرب وما أشوف غير الشباب بطحوني بالأرض وبلشوا يعجقوني.. بعدين سألني واحد منهم إنته أشو بتشتغل؟ قلت له بياع مازوت. فقال لرفيقه: اتركه عالقليلة هادا بيدفّي الناس في الشتي.. وتركوني.
أبو الناجي: طيب وشلون رجعت ع إدلب؟
أبو قدور ضاحكاً رغماً عنه: رحت ع مطار حارم، ركبت بالطيارة وجيت!
أبو الناجي: بلا مزح أبو قدور، شلون رجعت؟
أبو قدور: يمكن ما تصدقني إذا بقلك إني رجعت ركض، لأني بعدما تركوني الشباب مشيت لآخر الزقاق سمعت إطلاق نار، وصوت ركض وصياح.. فخطر لي بوقتها إنه محمد ديب قريع كان اسمه الشهيد الأول، وأنا بعد شوي بدي أكون الشهيد التاني. وصرت إركض. من دون يمين كلب الصيد ما بيحسن يجاريني في الركض.
تابعت في سهرة السمر الرمضاني الأخيرة وقائع الملحمة التاريخية التي تمحورت حول شخصية بائع المازوت الإدلبي "أبو قدور" الذي أصبح مناضلاً بعثياً رغماً عنه..
في يوم من أيام الأسبوع الأول من نيسان "إبريل"، ذهب أبو قدور إلى قرية حارم المتاخمة للحدود التركية، ليشارك رفاقه البعثيين المناضلين الاحتفال بذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، وعاد من هناك محطماً، مقهوراً، غاضباً.
أسر أبو قدور لصديقه "أبو الناجي نعسان آغا" الذي زاره في البيت ليطمئن عليه بأنه تسرع بانتسابه لحزب البعث، وتسرع أكثر بذهابه إلى حارم، ثم صار يسب على الرفيق "مازن" الذي دخل في مناخيره مثل الشيطان الرجيم، وجعله يدخل عالم السياسة مع أنه على قولة المثل (لا هو من الطبل، ولا هو من الزميرة)، وانتهى إلى القول بأنه رافق البعثيين ليشارك معهم في محاربة الإقطاع، مع أنه لا يعرف ما هو "الإقطاع" أصلاً، ولا يوجد بينه وبين الإقطاع أية مشكلة، أو أزمة، يعني إذا زال الإقطاع أو بقي فهذا الأمر لا يؤثر على نعل صرمايته العتيقة التي اشتراها قبل عرسه الميمون قبل خمس وعشرين سنة، من دكان القندرجي "أبو سعيد بطل" رحمة الله عليه.
أبو الناجي: طيب احكي لنا، أيش صار معك في حارم؟
أبو قدور: من لما طلعنا في الباص واتجهنا لحارم أنا حسيتْ بالعَطب يا خاي، لأنه الرفاق اللي معنا صاروا يحكوا شغلات مو كويسة.
أبو الناجي: شلون يعني مو كويسة؟
أبو قدور، بصوت خفيض وكأنه يذيع سراً: كان في تنين منهم عم يحكوا بالسياسة! ومن كلمة لكلمة تزاعلوا، ووصلت الشغلة بيناتهم للشيطان الرجيم. واحد كان عم يقول إنه الرفيق (فلان الفلاني) مناضل كبير، في سنة 1964 جَمَعْ الفلاحين اللي بيشتغلوا في الأراضي الزراعية وقال لهم: كل واحد يوقّفْ جَنْبْ الأرض اللي بيشتغل فيها، وبعدما وقفوا قال لهم: خلص، هاي الأراضي صارت إلكُمْ، على مبدأ الأرض لمن يعمل بها. يعني فلان هوي اللي وجه ضربة قاضية للإقطاعيين. بتحسن تقلَي الرفيق فلان هلق وينُه؟ تآمروا عليه رفقاته وطالعوه بَرَّه.. قام التاني قال له: شلون يعني بَرَّه؟ رفاقه بعتوه عَ الشام وصار عضو قيادة قطرية، وصار يلبس طقم وكرافيتة، وبيركب سيارة خصوصية، وما بيحط حق البانزين من جيبه، حتى خصصوا له شوفير بياخد معاشه من الحزب. والحزب من وين بيجيب المصاري؟ من الاشتراكات، يعني قاعد في الشام وعم يركب سيارة خصوصية ع حسابنا نحن اللي مندفع الاشتراكات. إنته ما بتعرف ليش رفعوه ورَكَّبُوه سيارة.. بس أنا بعرف. الأولاني قال له: بالله بتعرف؟ طيب تفضل احكي لنا، نورنا. رد عليه التاني: يا سيدي هني رفعوه وحطوه في القيادة القطرية ولبسوه طقم وكرافيتة لأنه أَيَّدْ انقلابْ حافظ الأسد. التاني زعل منه وقال له: عم تقول انقلاب؟ الرفيق حافظ الأسد قاد الحركة التصحيحية المباركة اللي قضت على الإقطاع والرأسمالية والرجعية والعقلية الحزبية المناورة، شوف ولاك. علي الطلاق إذا مرة تانية بسمعك عم تقول إنقلاب لحتى أليحك بتقرير أخلي المخابرات يشحطوك شحط..
الخلاصة يا حبيبنا أبو الناجي، من هادا كلمة ومن هادا كلمة قام كل واحد منهم مسك بخوانيقه للتاني، وصار يشد عليه، ولولا تدخلنا نحن بيناتهم وقعدنا كل واحد منهم بمكان كانوا ارتكبوا جريمة.. بعدين صار كل واحد منهم يقول: بسيطة، بس إرجع ع إدلب، والله لإكتب فيه تقرير أجيب أجله.
أبو الناجي: طيب وبعدين؟
أبو قدور: بلا طول سيرة وصلنا على حارم، نزلونا من الباصات وفلتونا بالحارات، وصرنا نطالع صور حافظ الأسد ونرفعها ونركض ونصيح بالروح بالدم نفديك يا حافظ. يا خاي أبو الناجي، أنا بدي إسألك سؤال، بس بيني وبينك؟ مين هادا حافظ الأسد؟ وليش هالناس بيفدوه بالروح وبالدم؟ طيب إذا هني فدوه بالروح وبالدم، أنا ليش بدي إفديه؟ أساساً أنا ما بعرفه، ولا بعرف إذا كانّه زلمة كويس أو بشع.. بعدين شلون الواحد بيفدي التاني بالروح؟ آ؟ يعني أنا بدي أموت كرماله وهوي بيبقى عايش؟ أي فشر بعينه. طيب إنته ما بتعرف شلون ماتت مرتي أم قدور الله يرحمها؟ صار معها - بعيد من قبالي - مرض بالكلاوي، وقالوا لي بدنا نعمل لك تحليل حتى نشوف إذا بتحسن تعطيها كلية من عندك أو لأ. قلت له للدكتور الظاهر إنته خرفان؟ ولا مجنون؟ الدكتور تطلع فيني وصار يتأملني. قلت له: إنته مين قال لك إني بعطيها كليتي؟ قال لي: هيي بدها تموت. قلت له: إذا ماتت بيكون عمرها خالص. أشو أنا بدي أعطيها عمر جديد؟ وهاي يا أبو الناجي مرتي أم ولادي، بقى مين هادا حافظ الأسد لأعطيه روحي ودمي؟!
أبو الناجي: طيب مفهوم. وبعدين؟
أبو قدور: وبلشنا يا أبو الشباب نسب عالإقطاع، وما نشوف غير تلات شباب طلعوا لنا من دار عربية إلها باب كبير، وسحبوا علينا الجفوت والبواريد، وصاحوا فينا صوت خلونا نوقّع صور حافظ الأرض ونخشب. واحد منهم قال: تعوا لهون يا ولاد ستين كلب. ما بيكفي أخدتوا لنا أراضينا وبيوتنا لسه جايين تسبوا علينا؟ أنا تلفتت هيك وهيك في الزقاق ما لقيت ولا واحد من رفقاتي، وقررت إهرب وما أشوف غير الشباب بطحوني بالأرض وبلشوا يعجقوني.. بعدين سألني واحد منهم إنته أشو بتشتغل؟ قلت له بياع مازوت. فقال لرفيقه: اتركه عالقليلة هادا بيدفّي الناس في الشتي.. وتركوني.
أبو الناجي: طيب وشلون رجعت ع إدلب؟
أبو قدور ضاحكاً رغماً عنه: رحت ع مطار حارم، ركبت بالطيارة وجيت!
أبو الناجي: بلا مزح أبو قدور، شلون رجعت؟
أبو قدور: يمكن ما تصدقني إذا بقلك إني رجعت ركض، لأني بعدما تركوني الشباب مشيت لآخر الزقاق سمعت إطلاق نار، وصوت ركض وصياح.. فخطر لي بوقتها إنه محمد ديب قريع كان اسمه الشهيد الأول، وأنا بعد شوي بدي أكون الشهيد التاني. وصرت إركض. من دون يمين كلب الصيد ما بيحسن يجاريني في الركض.