سمر رمضاني في إسطنبول (10)
بما أنني، محسوبكم راوي هذه الحكايات، كنت على صلة بالإذاعة والتلفزيون، فقد وقع العبء الأكبر في سهرة الإمتاع والمؤانسة علي. خلال زياراتي المتواترة لمبنى الإذاعة والتلفزيون بين عامي 1993 و2010، اطلعت على عدد لا بأس به من القصص والحكايات والأسرار الخاصة بهذين الجهازين الرهيبين، وكواليس "مبنى الهيئة" الموجود بالقرب من ساحة الأمويين.
أبو ماهر: والله الحكايات اللي عم نسمعها كتير ظريفة وبتسلي..
أبو المراديس: وجودنا مع بعض في بلاد الغربة بيحتاج دائماً للتسلية. المهم سيدي، كنا عم نحكي عن البدايات.. وكان الشي الطبيعي أن يعاني التلفزيون بوقتها من نقص كوادر المختصين، لذلك كان يعتمدوا على كوادر الإذاعة اللي افتتحت سنة 1947، يعني قبل 13 سنة من افتتاح التلفزيون، ومتلما بتعرفوا كان أهم كاتب إذاعي هوي حكمت محسن، وأحياناً كانوا يجوا من عالم المسرح، متل عبد اللطيف فتحي وجميل ولاية، وكانت الضرورة تقتضي إنه الموظفين الفنيين الموجودين في الهيئة بهداكا الوقت يتعلموا الإخراج بالممارسة.
حنان: ممكن تضرب لنا مثال؟
أبو المراديس: طبعاً. خبرني المخرج الراحل الأستاذ جميل ولاية (1930- 2013) اللي كان يشتغل في الموسيقا والمسرح، إنه أول عمل درامي أخرجه في حياته هوي سباعية تلفزيونية بعنوان "نهاوند"، وكانت من تأليف القصاص الشعبي حكمت محسن، وبفضل هالسباعية صار جميل ولاية معروف كمخرج.. وحكى لي المخرج الراحل رياض دياربكرلي (1936- 2019) إنه التلفزيون، في سنة 1964، بلش يشتغل على إنتاج تمثيليات سهرة (أفلام تلفزيونية) مأخوذة عن قصص محلية أو عربية أو عالمية. كان رياض عامل دورة إخراج في ألمانيا وراجع على سورية، فأعطوه فيلم سهرة عنوانه "أستاذ تري لَمْ" من تأليف حكمت محسن، وأخرجه، وكان من بطولة تيسير السعدي وهالة شوكت وعلي الرواس وتاج باتوك.
أبو المراديس: على فكرة، قبل ظهور التلفزيون كانت الحياة الاجتماعية غنية جداً، والتلفزيون خلاها تصير فقيرة. وعلى كل حال هادا موضوع تاني، يمكن شي مرة نرجع له
كمال: أبو مرداس عم يحكي أشياء مهمة.. لكن برأيي أن الشي اللي كان يصير بين الناس كمان مهم. أنا بعرف قصة كتير حلوة إلها علاقة بدايات التلفزيون.
أبو محمد: أحلى شي القصص. تفضل.
كمال: أنا كنت زغير، وكان جدي أبو إبراهيم بعدُه عايش، نحن طلبنا من أبوي يشتري لنا تلفزيون، بس أبوي كانت حالته المادية ضعيفة، لما ألحينا عليه سحب قشاط البنطلون وهجم علينا حتى يحسم المشكلة، ولما سمعنا جدي أبو إبراهيم عم نصيح ونستغيث تدخل، وحل المشكلة، وقال: تعا معي يا كمال إنته وأخوك نادر.
وأخدنا ع دكان الحجي خليل واشترى لنا تلفزيون مع لوازمه، وبعت معنا ورشة منشان نركبه، لأن التركيب بهديكه الأيام كان صعب كتير، وبيتطلب إنه ناس يطلعوا ع السطح ويركبوا الهوائي، ويوجهوه بحيث يلتقط الإرسال بشكل جيد. جدي أبو إبراهيم كان شخص ظريف، في إله مجموعة أصدقاء ظرفاء متله، كانوا يقعدوا على باب مقهى "عطا الشيخ"، ويأركلوا، ويحكوا لبعضهم قصص بتضحك، وكانوا يتضحكوا بصوت عالي، ولما أهل السوق يسمعوا ضحك جماعي كانوا يقولوا: هاي شلة أبو إبراهيم.
أبو المراديس: على فكرة، قبل ظهور التلفزيون كانت الحياة الاجتماعية غنية جداً، والتلفزيون خلاها تصير فقيرة. وعلى كل حال هادا موضوع تاني، يمكن شي مرة نرجع له.
كمال: المهم؛ جدي أبو إبراهيم حب التلفزيون، متلنا، وصار يقعد معنا في البيت قدام التلفزيون فترات طويلة، لكن بهالفترة خلقت عنده مشكلة، صاروا أصدقاؤه يضوجوا منه، وكل شوي يبعتوا له خبر، منشان يروح ع القهوة ويأركل معهم. وهوي يقول: يا الله جاييكم.. ويقعد، ويستغرق بالفرجة. وبعدما أخد فكرة عن كل البرامج صار يمل منها، وشوي شوي بلش يخفف من الفرجة، مثلاً يكون عم يتفرج، تطلع الأخبار، يقوم ويطلع من البيت ويروح ع القهوة، يدخن نفس تنباك، ويرجع، ويسألنا: أشو طلع بعد النشرة؟
ونحن نحكي له. يسأل: طلعت سميرة توفيق؟
نقله: لأ.
بوقتها كان يشعر بالارتياح لأن ما راحت عليه الوصلة الغنائية تبع سميرة توفيق.
أم زاهر: يعني سميرة توفيق ما كان إلها موعد ثابت؟
كمال: أبداً، الوصلات الغنائية ما كان إلها موعد ثابت، فجأة بتطلع المذيعة وبتقول: نترككم مع سميرة توفيق وهذه الوصلة الغنائية.
وكانت الوصلات الغنائية المتوفرة في أرشيف التلفزيون محصورة بسميرة توفيق، وصباح فخري، ونازك، وفيروز، وفهد بلان، وناظم الغزالي، وعبدو موسى، وفي بعض الأحيان بتطلع أغنيات فردية، منها أغنية هيام يونس "تعلق قلبي طفلة عربية"، علماً أن هاي الأغنية في الأصل للمطرب السعودي طلال المداح رحمه الله. المهم؛ جدي أبو إبراهيم صار يحب أكتر شي سميرة توفيق، وبالدرجة التانية الدلوعة صباح، وبالأخص أغنيتها ع الندا الندا الندا.. الورد مفتح ع خدا.. وهاي الأغنية بالذات لما يسمعها جدي كان يرقص ونحن نصفق له ونرقص معه. وفي يوم من الأيام، وبعد تفكير طويل، خطرت لجدي فكرة جهنمية. عمل اجتماع للأحفاد، وقال إنه الولد اللي في عمرنا إذا راح من الدار لمقهى الحاج عطا على مهله بياخد معه المشوار سبع دقايق، لكن إذا علق رجليه بأدانيه وركض متل كلب الصيد حاشاكم (هوي ما قال حاشاكم)، بيوصل بدقيقتين، وهوي، يعني جدي، ما بيحبّ يستغل حداً، لأن الإنسان يا شباب بده يموت، وبده يتحاسب على كل أعماله، فإذا هوي استغل واحد من أحفاده ممكن يتحاسب على هالشغلة.. ولذلك خصص جائزتين، الجائزة الأولى مقدارها نصف ليرة سورية، للولد اللي بيكون قاعد عم يتفرج ع التلفزيون، وبتطلع سميرة توفيق، بينط متل السعدان، وبيركض على مقهى عطا الشيخ، وبيخبر جده حتى يجي هوي، بسرعة، ع الدار، ويتفرج ع سميرة، والجائزة التانية مقدارها ربع ليرة، بتندفع للولد اللي بيجي ع المقهى، بنفس السرعة، وبيبلغه إنه طالعة الدلوعة صباح.
ونحن كيفنا على هالشغلة، وصرنا كلما طلعت سميرة أو صباح نسترزق الله، ويصير معنا خرجية إضافية!