سمر رمضاني في إسطنبول (14)
فتحنا، في سهرة الإمتاع والمؤانسة السابقة، سيرة صديقي الرائع سامر الذي غلب عليه طوال حياته لقب "أبو سمرة". وكنت محتاراً بأية واحدة من حكاياته أبدأ، حتى اهتديت إلى حكاية والده ذي الطبع الكريم، يوم باع الجحش الذي كان يستخدمه في نقل منتجات الكرم، ويحمّل عليه ما يشتريه من السوق، وأولم بثمنه لضيوف جاؤوا لزيارته من مدينة حمص دون موعد مسبق. ولأن أبو سمرة شخص فكه، فقد ختم حكايته بالقول إن والده، قبل الوليمة، كان يقسّم الشغل بينه وبين الجحش، ولَكَ أن تتصور ما حل به بعد ذلك!
أبو المراديس: من كتر ما كان أبو سمرة مولع بالحكايات الطريفة، كان عامل لها "ملفات"، يعني، مثلاً، بيحكي لك قصة عن الضيوف، وبعدما ينتهي من سردها، بيحكي قصة تانية بنفس الموضوع. وكان حاطط للحكايات تبعه عناوين. منها حكاية "سليم بيك من العدلية".
كمال: الله أكبر. معناها أبو سمرة مو مجرد شخص مسلي، فينا نقول قصاص.
أبو المراديس: طبعاً. ومتلما بتعرف عزيزي كمال، إذا كان كاتب القصص بيهتم بحياة الناس (الشعب)، متل المرحوم حكمت محسن اللي حكينا عنه قبل مدة، بيسموه القصاص الشعبي. وأنا بضيف إنه أبو سمرة كان "قصاص شعبي شفاهي" من الطراز الرفيع.
من ملف "الضيوف"، حكى لي أبو سمرة، ذات يوم، حكايةً يعودُ تاريخُها إلى الأيام الصعبة، عندما كان عاطلاً عن العمل، يعيش على مساعدات صغيرة تأتيه من عمه "نادر" المقيم في دمشق، تكفيه لشراء الحاجيات الضرورية فقط، وكان يتغذى بشكل أساسي على الخبز والزيت والبصل مع رشة نعناع مطحون.. وكان يشتهي الفواكه كثيراً، ويحاول أن يتناساها، ولكن ما يزيد في غيظه أن لدى جاره "أبو رستم" شجرة مشمش تتكئ على الجدار الفاصل بين داريهما، حباتُها تتلامع تحت أشعة الشمس بألوانها الجذابة، وكأنها تقول له: تعال يا أبو سمرة خذني والتهمني.
ضحك أبو سليم وقال لي: هون حطنا الجمال. لازم أقوم بالواجب، لكن من وين؟ أبو مرداس أنا مو بس مفلس، أصحاب الدكاكين في حارتنا كلهم حالفين يمين أنهم ما يبيعوني شي بالدين
حنان: وصف رائع. بس ما فهمنا، أيش علاقة هالشي بحكايات "ملف الضيوف"؟
أبو المراديس: العلاقة قوية عزيزتي، بس أنا عم ساوي للحكاية مقدمة. المهم، في يوم من الأيام، فَقَدْ أبو النور مقاومتُه لإغراءْ المشمش، وأسند السلم الخشبي ع الحيط، وشال سطل بلاستيك وطلع، وبذهنه يحصل على عشر حبات مشمش، وياكلهن بنهم.. وبالفعل، بلش يقطف حبات مشمش ويحطها في السطل، وإذ بيطلع له أبو رستم من الطرف التاني، وبيمسك إيده، وبيقول لك: كمشتك بالجرم المشهود يا حرامي المشمش!
وهدد بأنه راح يشتكي عليه، وبالفعل اشتكى، وأجاه تبليغة من المحكمة، وكان موعد الجلسة الأولى من المحاكمة بعد عشرة أيام.
أبو محمد: أشو هالجار الحيوان؟ منشان عشر مشمشات بيشتكي على جاره وبيشرشحه؟
أبو المراديس: بالفعل كان تصرف غريب، وكانت تهمة السرقة قاسية كتير بالنسبة لأبو سمرة اللي شخصيته نضيفة، ومتوازنة، ويمكن إذا بتقول قدام أهل البلد إنه أبو سمرة سرق بيفكروك عم تمزح، لأن من أهم صفاته الأمانة وعفة النفس. بعدين في بلادنا عادة شائعة، أن أي عابر سبيل في البرية ممكن يوقف جنب شجرة تين وياكل كم حبة، وإذا شافه صاحب الأرض بيسلم عليه وبيقول له: صحتين. أما هادا أبو رستم كان واحد ندل بصحيح. على كل حال نحن هلق وصلنا لموضوع الضيف "سليم بيك من العدلية".
أبو محمد: هات لنشوف، سمعنا.
أبو المراديس: كان أبو سمرة قاعد في داره، وعم يفكر بطريقة يطلع فيها من ورطة المشمش والمحاكمة، وإذ بيسمع طرق على باب الدار. فتح. لقى صديقه أبو صبحي، ومعه رجل أسمر، طويل القامة، أنيق، شعره رمادي، لابس طقم رسمي مع كرافة من النوع الجيد. أبو صبحي عَرَّفُه على الضيف وقال له: "سليم بيك من العدلية".
لما حكى لي أبو سمرة القصة قال لي: مو ممكن تتخيل فرحتي، يا أبو المراديس، بهالضيف الرائع.. بلشت أرحب بسليم بيك، وأدعوه للدخول مع عبارة أهلاً وسهلاً ومرحباً، نورت وشرفت سليم بيك.. بتعرف ليش؟ لأن من هيئته توقعت يكون قاضي، أو نائب عام، أو مستشار بمحكمة الجنايات.. وبهالحالة أكيد راح يتدخل منشاني عند القاضي اللي راح تكون محاكمتي عنده، وما في شك أن القضاة بيمونوا على بعضهم، وكرمال سليم بيك، القاضي تبعي راح يعتبر قضية سرقة المشمشات سخيفة، وراح يخليني إطلع منها (مَنْع محاكمة)..
قلت: معناها لازم تقوم بواجب الضيافة على أكمل وجه.
ضحك أبو سليم وقال لي: هون حطنا الجمال. لازم أقوم بالواجب، لكن من وين؟ أبو مرداس أنا مو بس مفلس، أصحاب الدكاكين في حارتنا كلهم حالفين يمين أنهم ما يبيعوني شي بالدين، لأني بالعادة بقترض من عندهم وما بوفيهم. المهم استأذنت من أبو صبحي وسليم بيك وطلعت من الدار، وبالصدفة تلاقيت بابن عمي أكرم، سلمت عليه وخبرته أني واقع في أزمة ولازمني خمس ليرات، بالأول صار يتلجلج، بعدين عطاني، وأنا رحت دغري لعند السمان البشع "أبو نَكْلة"، اشتريت بيض دجاج، وسمن نباتي، وملح، وبهار، ولبن، ورجعت ع الدار بسرعة لحتى أعمل غدا، بيض مقلي، وأقوم بواجب صديقي العزيز "سليم بيك من العدلية".. لكن لو تعرف أيش لقيت.
قلت له: أيش لقيت؟
أبو سمرة: لما وصلت عند شباب غرفتي سمعت صوت أبو صبحي عم يغني "حبحبني ع الخدين شو هالجسارة"، وفي حدا عم يدق على دربكة أو طنجرة، وصوت ضحك وتخبيط.. استعجلت الخطوات، دخلت الدار، حطيت لوازم الطبخة في المطبخ وركضت ع الغرفة، لقيت سليم بيك شالح جاكيته وكرافته، وأبو صبحي عم يدق ع الطنجرة، وبيغني، وسليم بيك عم يرقص بهبل شديد، وعم يضحك.
قلت له: شي غريب. ما عرفت أشو القصة؟
أبو سمرة: طبعاً عرفت. حضرة صديقي أبو صبحي المحترم بيعرفني مولع بالقصص والمقالب والشخصيات الطريفة، وبالصدفة تعرف على هادا الرجل الأهبل، اللي بيدعي أنه بيشتغل بالعدلية، وجايبه حتى يعرفني عليه.. ولما أنا طلعت من الدار، خطر لأبو صبحي يغني "حبحبني ع الخدين"، وفجأة قام سليم بيك وصار يرقص!
(هذه هي التدوينة الرمضانية الأخيرة.. سنستأنف سهراتنا وحكاياتنا خلال العيد.. كل عام وأنتم بخير).