سورة العاديات في مساق إبستمولوجي
كنّا طلبة من خلفيات متنوّعة في صف الإبستمولوجيا هذا، وكان مُدرجاً كمساق خاص، غير دوري في جميع الفصول الدراسية، وأصبح من العادة، حاجة مساقات الفلسفة الخاصة في جامعة بيرزيت إلى ترويج حتى يكتمل الحد الأدنى من عدد الطلبة، ليُعتَمد إدراجها.
روّج بعض الطلبة المهتمين للمساق في فضاء الجامعة، وكالعادة أيضاً، يلتحق بعضٌ آخر، سعياً إلى رفع معدّلاتهم الأكاديمية، بمساقات من هذا النوع، ويندمون، لا لأنهم لم ينجحوا في رفع معدلاتهم في هذه المساقات، بل لتحويلهم إلى موضوعٍ للتفكير في العديد من المحاضرات، كما أفعل الآن، بل أشدّ.
ما يهم الطلبة مروّجي المساق هو اكتمال النصاب، حتى تفتح الشعبة، ونصاب مساق الابستمولوجيا اكتمل.
في بداية الفصل وزّع علينا الأستاذ خطة المساق، ليختار كلّ طالب الموضوع الذي سيُقدِم عرضاً حوله.
اخترت "السببية" عند الإمام أبي حامد الغزالي، لعلمي المسبق بموقف الأستاذ الرافض للرأي الاستشراقي المشهور حول الإمام الغزالي وفكره؛ ثنائية (الغزالي - ابن رشد) كمقابل لـ(اللاعقل - العقل)، بوصف الغزالي ممثلًا لـ"اللاعقل" وسبب أفول العقل العربي الإسلامي، مقابل ابن رشد كممثل لـ"العقل" والتنوير والإبداع، وغير ذلك مما تحبه ثقافة بيرزيت عمومًا.
طيب، المهم، بعد هذه المحاولة لدخول حرم الجامعة، والمقدمة عن هذا الصف الجميل، ما الذي يربط المساق بسورة العاديات؟
كانت السورة الكريمة موضوعاً طارئاً طرحه الأستاذ كخيار للطلبة ليقدّموا عرضاً حوله؛ استعراض أقوال المفسرين تحديداً. لم يُبادر أحد من الطلبة إلى اختيار الموضوع، إلا شاباً من "الكتلة الإسلامية"، كما هو متوقع طبعاً.
من السهل اليوم أن يتناول المرء آيةً من التنزيل الحكيم، ويتأملها ليخرج لنا بتفسيرٍ جديد، من أنماط التفسير التي تلوي أعناق النصوص، فتكون شطحات أكثر من أي شيء آخر
كانت محاضرةُ عرض أقوال المفسرين بعد محاضرةٍ قدّمها الأستاذ حول قيمة الحقيقة في المعارف وفي مصادرها وأدواتها، ولطبيعة موضوع هذه المحاضرة، كان لا بد من تناول مفاهيم كالحقيقة واليقين والبرهان والنسبية المعرفية وغيرها، وقدّم لنا الأستاذ تعريف الكندي لليقين: "سكون الفهم مع ثبات القضية ببرهان"، فيكون البرهان هو الطريق الاستدلالي لتحقيق اليقين، والبرهان من المفاهيم المركزية في المساق، وفي قصتنا مع سورة العاديات.
قدّم زميلنا أقوال المفسّرين لسورة العاديات في المحاضرة التالية، وتفاعل الأستاذ معه ومعنا لفهم أقوالهم ونقولهم، ولم نفهم الإضافة الطارئة للسورة على خطة المساق حتى نهاية المحاضرة، حين أخبرنا أنه سيرسل لنا مقالة لنقرأها سويًا في الصف. كانت مقالة جديدة لشاعرٍ فلسطيني، عن الآيات الخمس الأولى من سورة العاديات، يقدّم فيها تفسيرًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد من الأولين.
أخذنا في قراءة المقالة محاضرتين كاملتين، وتتبعنا ما فيها حذو النعل بالنعل، وكنّا نقرأ ونتأمل، ويدفعنا الأستاذ لنقاش ما يطرحه الشاعر في مقالته، واستحضار ما تقدّم من تفسير المفسّرين، والجزء الأهم هو التركيز على كيفية استدلال الشاعر على قوله.
يقدم الشاعر مقالته كمحاولة لفهم الآيات "الملغزات" في القرآن، باعتبار أنّ الآيات 1-5 من سورة العاديات من الآيات الغامضة في القرآن، "إنها اللغز المطلق تقريبًا" على حد قوله. ومن تفاسير القرآن المشهورة اكتفى الشاعر بتفسير القرطبي، مستعرضًا من خلاله قول عليٍّ (رضي الله عنه) في العاديات أنها الإبل، وقول ابن عباس (رضي الله عنه) أنها الخيل، وعزوف ابن عباس عن قوله إلى قول علي.
وبعد ذلك، يُعبّر عن شكّه في صحة الجدال المذكور في التفسير بين ابن عباس وعلي (رضي الله عنهما)، ويعبّر أيضًا عن شكّه في وجود الخيل والجمال في الآيات أساسًا. ويكتفي بهذا ليبدأ بطرح "وجهة نظره".
ولو لم يكتف الشاعر بتفسير القرطبي لوجد أنّ خبر عليٍّ وابن عباس واردٌ في تفسير ابن كثير وتفسير الطبري. ولربما أيضًا، شعر بحاجةٍ لتوضيح طبيعة شكّه في وجود الخيل والجمال في الآيات، فضلًا عن توضيح الشك في الخبر المنقول، لأنني لم أفهم بالضبط ما الذي يشك فيه، فقد اكتفى بالتعبير عن ذلك بجملة واحدة!
ينطلق الشاعر من "إحساس" يغمره بأن العاديات تتعلق بالنجوم أو مجموعات نجمية، وبأنّ القرآن يقسم بها، ويزعم بعد ذلك أنه يريد إعطاء "براهين ما" على إحساسه، فيقول إنّ الأسهل لذلك هو آية "فالمغيرات صبحًا". بعد ذلك يقول إن هذه الجملة تتحدث "في ما يبدو" عن سقوط النجوم.
توقفنا عند قوله "كي أعطي براهين"، وتوقفنا عند محاولته الاستدلالية، حيث يستشهد بالمعجم وببيتٍ من الشعر على أنّ النجوم والكواكب تُغير، ليعود مرة أخرى بعد ذلك ليقول إن الآية تتحدث "في ما يبدو عن سقوط نجوم محددة".
سأكتفي بمحاولته هذه، لأنه يكمل بعد ذلك في تفسير ما أتى بعد المغيرات على النمط نفسه، ليعود بعدها مفسّرًا "والعاديات ضبحًا" ومن ثم "فالموريات قدحًا"، ويربط بينها جميعًا فتكون العاديات والموريات نجومًا أيضًا، مع تفصيل لكلّ آية وكل ذلك انطلاقًا من أنّ المغيرات هي النجوم.
يقول الشاعر: "لكن المشكلة أنه لم يسبق لأحد أن أخبرنا أنّ للضبح علاقة بالفلك أو بنجوم سماوية محدّدة. لذا، فليس أمامنا سوى التكهن. وظني (ويجب التركيز على أنني أتحدث بالظن هنا) أنّ الأمر يتعلق بالنجوم التي تطلع في الفجر لا بالنجوم المغيرات التي تسقط في هذا الفجر".
يتحدث الشاعر عن "براهين" في بداية عرض إحساسه، وبعد ذلك يكرّر أثناء ترجيح آرائه بأنّ الأمر "يبدو" كذلك، أربع مرات، ويقول هنا ليس أمامنا سوى التكهن.
يجب علينا أن نمتلك المعارف والأدوات اللازمة قبل أن نتكلم في شيء كأننا من أهله، فليس للمرء أن يتكلم بغير علم ودون أن يلقي بالاً لكلامه
إنّ محاولته البرهانية هذه، في ما يبدو، لا تعتمد على شيء سوى إحساسه، ومن ثم يحاول أن يصوغ لإحساسه هذا مشروعية بزخرف القول.
فلم يوضح لنا البتة سبب ترجيحه أنّ المغيرات هي النجوم، ولم يحاجج تجاه رفض التفسير بالخيل أو الإبل. وعلى الرغم من قوله المكرّر أنّ الأمر "يبدو" له كذلك، فإنه يكمل التفسير انطلاقًا من مقدمته الشعورية ومما يبدو له، وبعد كلّ هذا يختم بالجملة قبل الأخيرة بكلّ ثقة "إذن، فالموريات هن النجوم اللواتي يورين القيظ وقدح لهيبه، لا الخيل التي تقدح شرر الحجر بحوافرها".
حقًا إن المشكلة أنه لم يسبق لأحد أن أخبرنا أنّ للضبح علاقة بالفلك أو بنجوم سماوية.
يبدو لي أنه من السهل اليوم أن يتناول المرء آيةً من التنزيل الحكيم، ويتأملها ليخرج لنا بتفسيرٍ جديد، من أنماط التفسير التي تلوي أعناق النصوص، فتكون شطحات أكثر من أي شيء آخر، ومن ثم يقرّر أن تأملاته تستحق المشاركة والنشر، بل ويدعوه ذلك إلى الشك في التفاسير السابقة وفي أخبارٍ عن الصحابة، لا لشيء، فقط لأنّ الأمر يبدو له كذلك.
ويبدو لي أنّ ممارسة هذه الأنماط التأملية ومشاركتها أسهل اليوم من انتقاد هذه الممارسة وأصحابها.
ليس للمرء، خاصةً من يتبوأ مكانةً بين الناس، أن يقول ما يقول دون أن يمتلك ما يمكّنه من ذلك.
يجب علينا أن نمتلك المعارف والأدوات اللازمة قبل أن نتكلم في شيء كأننا من أهله، فليس للمرء أن يتكلم بغير علم ودون أن يلقي بالًا لكلامه. هذه فوائد مكرّرة، وهي من أهم ما تعلمته في درس الابستمولوجيا.
فكيف حال شاعرنا، وهو يتقوّل آياتٍ من التنزيل بغير علم!