سورية... الإطار القانوني لقرارات الحكومة الجديدة
في الثامن من ديسمبر/كانون الأوّل 2024، شهدت سورية تحوّلًا جذريًا في نظام الحكم بعد أن نجحت قوات المعارضة السورية في إزاحة الديكتاتور بشّار الأسد عن السلطة، والذي لجأ إلى روسيا عقب هذه الأحداث. أعقب ذلك تسليم رسمي للسلطة من رئاسة الوزراء التابعة للنظام السابق، لتبدأ الحكومة الجديدة ممارسة سلطاتها وإصدار قرارات وعقد اتفاقات تهدف إلى إعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار. هذا التحوّل أثار تساؤلات حول شرعية ودستورية القرارات الصادرة عن الحكومة الجديدة، باعتبارها حكومة أمر واقع وليست حكومة منتخبة أو دستورية بالمعنى التقليدي.
عند الحديث عن شرعيّة القرارات في ظروف كهذه، يستند النقاش إلى مفاهيم قانونية تُعرف بفقه "حكم الأمر الواقع". هذا الفقه يُعنى بدراسة كيفية التعامل مع القرارات الصادرة عن سلطاتٍ لم تصل إلى الحكم عبر الآليات الدستورية المعتادة. لفهم أبعاد هذا الموضوع، من الضروري استعراض ثلاث نظريات قانونية رئيسية تناقش شرعية هذه القرارات، مع توضيح ارتباطها بالوضع السوري لتيسير استيعابها.
نظرية انعدام الشرعية المطلق
تُعتبر هذه النظرية أنّ أيّ حكومة تصل إلى السلطة بطرق غير دستورية، مثل الانقلابات أو الثورات، لا يمكن أن تُعتبر شرعية تحت أيّ ظرف. ووفقًا لهذه النظرية، فإنّ جميع القرارات التي تصدر عن حكومة كهذه تُعدّ باطلة وغير دستورية. تعتمد هذه النظرية على مبدأ أنّ الشرعية الحقيقية تستند فقط إلى الالتزام بالدستور، الذي يمثّل العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم.
يرى أنصار هذه النظرية أنّ سيادة الشعب هي مصدر السلطة الشرعية في الأنظمة الديمقراطية، وبالتالي، فإنّ أيّ استيلاء على السلطة خارج الإطار الدستوري يُعد انتهاكًا للإرادة الشعبية. وبرأيهم، حتى لو كانت الانقلابات أو الثورات مبرّرة سياسيًا أو اجتماعيًا، فإنها لا تمنح الفاعلين السياسيين الحق في تجاوز الدستور الذي يمثّل أعلى مرجعية قانونية للمجتمع.
أيّ استيلاء على السلطة خارج الإطار الدستوري يُعد انتهاكًا للإرادة الشعبية
يتبنى هذا الموقف الصارم عدد من الدول والمؤسّسات الدولية، مثل الاتحاد الأفريقي، الذي يرفض الاعتراف بالأنظمة التي تصل إلى السلطة عن طريق القوّة، كما حدث في بوركينا فاسو في عام 2015، وفي مالي عام 2020، وغينيا عام 2021.
في الحالة السورية، قد نجد من يدعم هذه النظرية، خاصّة من أتباع النظام السابق، بحجّة أن الحكومة الجديدة لم تصل إلى السلطة عبر انتخابات أو إجراءات دستورية واضحة، بل من خلال إزاحة النظام القديم بالقوّة. من هذا المنطلق، قد يتم استخدام هذه النظرية لرفض أيّ قرار تتخذه الحكومة الجديدة واعتباره انتهاكًا للمبادئ الدستورية.
مع ذلك، تواجه هذه النظرية انتقادات عديدة. من أبرزها أنها تتجاهل الظروف الاجتماعية والسياسية التي أوجدت الأمر الواقع، وقد تؤدي إلى فراغ قانوني واضطراب إداري يتعارض مع مبدأ الضرورة الذي تفرضه حالات كهذه. لذا، فإنّ التطبيق الجامد لهذه النظرية قد يعوق استقرار الدولة ويعطّل إعادة بناء مؤسساتها.
نظرية الشرعية الواقعية
تتميّز هذه النظرية بالمرونة مقارنةً بنظرية انعدام الشرعية المطلقة، إذ تقبل بواقع الأمور وتمنح الحكومة الجديدة شرعية مؤقتة إذا تمكنت من فرض النظام وضمان استقرار الدولة، وذلك استنادًا إلى "الضرورة". ووفقًا لهذه النظرية، تُعتبر القرارات التي تتخذها حكومة الأمر الواقع مقبولة طالما كانت تهدف إلى إدارة شؤون الدولة وتحقيق الاستقرار.
يرى أنصار هذه النظرية أنّ حالات الانقلابات أو الثورات قد تتطلّب سلطة قادرة على إدارة شؤون الدولة لتجنّب الفوضى والانهيار المؤسّسي. لذا، فإنّ الاعتراف بسلطات الأمر الواقع وشرعنة قراراتها يمكن أن يكون ضروريًا للحفاظ على استمرارية المؤسسات العامة وضمان الانتقال السلمي إلى وضع دستوري مستقر.
تُعتبر القرارات التي تتخذها حكومة الأمر الواقع مقبولة طالما كانت تهدف إلى إدارة شؤون الدولة وتحقيق الاستقرار
أحد الأمثلة البارزة على تطبيق هذه النظرية هو الوضع الدستوري في فرنسا عقب الثورة الفرنسية عام 1789، إذ أطيح بالنظام الملكي وفرضت شرعية جديدة بناءً على حكم الأمر الواقع. كما نجد أمثلة أخرى في سورية بعد انقلاب حزب البعث في 8 آذار/مارس 1963، وفي إيران عقب قيام الثورة الإسلامية عام 1979.
في السياق السوري الحالي، تُعدّ هذه النظرية ذات صلة كبيرة، خاصّة بعدما تمكنت الحكومة الجديدة من فرض سيطرتها على مؤسسات الدولة وضمان توفير الخدمات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاعتراف الدولي والدعم من القوى الكبرى يعزّزان من الشرعية الواقعية لهذه الحكومة. ومع ذلك، يوجّه لهذه النظرية بعض الانتقادات، أهمها أنّها قد تُستغل لتبرير استمرار الأنظمة الجديدة لفترات طويلة دون العودة إلى الإطار الدستوري، ممّا قد يؤدي إلى تشجيع ممارسات غير ديمقراطية وتأخير التحوّل إلى نظام شرعي مستدام.
نظرية التمييز بين القرارات
تُعد هذه النظرية الأكثر مرونة وتوازنًا بين النظريات القانونية، وتقوم على التمييز بين نوعين من القرارات الصادرة عن سلطات الأمر الواقع. وفقًا لهذه النظرية، تُعتبر قرارات حكومة الأمر الواقع شرعية إذا كانت تهدف إلى تسيير شؤون الدولة وضمان استمراريتها، لكنها تصبح غير شرعية إذا تجاوزت حدود الضرورة وتطرّقت إلى مسائل تغيّر مستقبل الدولة جذرياً. بمعنى آخر، تُفرّق هذه النظرية بين القرارات الضرورية التي تخدم الشعب مباشرة، وتلك التي تعكس مصالح شخصية أو حزبية. وبهذا الشكل، تسهم النظرية في ضبط تصرّفات سلطات الأمر الواقع، إذ ترفض منح الاعتراف الكامل بشرعيّة جميع أفعالها، مما يمنع استغلال السلطة بإفراط.
في التطبيق العملي لهذه النظرية، نجد أمثلة واضحة من تاريخ القضاء المصري بعد ثورة يوليو/تموز 1952، فقد ألغت بعض المحاكم قرارات تتعلّق بمصادرة أملاك أو فرض قيود على الحريات لأنّها لم تكن ضرورية لضمان استمرارية الدولة، واعتُبرت تجاوزًا للصلاحيات المؤقتة الممنوحة لسلطة الثورة. كما تظهر أمثلة مشابهة في القضاء الفرنسي خلال فترة حكومة فيشي (1940-1944) وفي جنوب إفريقيا عقب انتهاء نظام الفصل العنصري.
شرعية قرارات الحكومة السورية الجديدة مسألة دقيقة تعتمد بشكل كبير على كيفية ممارستها للسلطة
أما في الحالة السورية، فيمكن أن تكون هذه النظرية إطارًا عمليًا لتقييم شرعية قرارات الحكومة الجديدة. على سبيل المثال، إذا أصدرت الحكومة قوانين لإعادة بناء البنية التحتية أو لتسيير الأعمال اليومية مثل توفير الكهرباء والمياه، فإنّ هذه القرارات قد تُعتبر شرعية ومقبولة لأنها تهدف إلى تلبية احتياجات أساسية للمواطنين. وعلى النقيض، إذا قامت الحكومة بإصدار قرارات تتعلّق بتغيير جذري في الدستور أو توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع دول أجنبية دون الرجوع إلى الشعب، فإن هذه القرارات قد تُعتبر غير شرعية لأنها تتجاوز حدود الضرورة وتفرض تغييرات دائمة دون تفويض شعبي.
ومع ذلك، يُعاب على هذه النظرية أنّ التمييز بين القراراتِ الضرورية وغير الضرورية قد يكون صعبًا عمليًا في كثير من الأحيان، مما يفتح المجال للتأويلاتِ المختلفة. ولذلك، يتطلّب تطبيق هذه النظرية إطارًا واضحًا وشفافًا لتقييم طبيعة القرارات ومدى ارتباطها بالمصلحة العامة.
التحديات الدستورية في سورية: من الثورة إلى الاستقرار
يمثّل الوضع السوري الحالي حالة فريدة من نوعها تجعل من الصعب الاعتماد على نظرية واحدة فقط لتقييم شرعية القرارات التي تتخذها الحكومة الجديدة. بدلاً من ذلك، قد يكون من الأنسب أن تتبنى الحكومة نهجاً شفافاً يركّز على اتخاذ القرارات الضرورية التي تخدم المصلحة العامة، مع وضع إطار قانوني انتقالي يحدّد بوضوح صلاحيات الحكومة ويقيّدها بما يتناسب مع هذه المرحلة الحساسة.
على سبيل المثال، يمكن أن تشمل الخطوات الموصى بها وضع خطّة انتقالية تتضمّن صياغة دستور جديد من خلال استفتاء شعبي وتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة في أقرب وقت ممكن. خطوات كهذه قد تساعد الحكومة الجديدة على تعزيز شرعيتها، سواء على المستوى الداخلي من خلال كسب دعم الشعب، أو على المستوى الدولي من خلال الحصول على اعتراف الدول والمنظمات الكبرى.
في ظلّ النظريات القانونية المختلفة، تظلّ شرعية قرارات الحكومة السورية الجديدة مسألة دقيقة تعتمد بشكل كبير على كيفيّة ممارستها للسلطة. إذا ركّزت الحكومة على اتخاذ قرارات ضرورية ومؤقتة تهدف إلى استقرار الدولة وتلبية احتياجات المواطنين، مع الالتزام بتقديم خريطة طريق قانونية وسياسية واضحة، فإنها قد تنجح في كسب القبول الشعبي والدولي. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين فرض النظام واحترام المبادئ الدستورية لضمان استدامة الشرعية على المدى الطويل.