سيرة العقل والجنون (13)
عندما نحكي عن العقلاء والمجانين ليس من الضروري أن نلتزم بسيرة شخص واحد، يعني، بإمكاننا أن نترك حكايات المجنون فريد ابن أبو خلو جانباً، وننتقل إلى حكاية أخرى. هذا ما قاله أبو الجود في مطلع سهرة الإمتاع والمؤانسة. وأضاف:
- إذا بتعطوني حصة من الحديث بدي إحكي لكم حكاية كويسة.
كمال: منعطيك الحديث كله طول السهرة. تفضل.
أبو الجود: كان عندنا في القرية رجل عاقل، أو خلينا نقول إنه مجنون بس ما حدا منتبه عليه، اسمه "أبو بكار". كان ملاك أراضي، عنده أكتر من ألف دونم أراضي خصبة، منها مشجر بالزيتون، ومنها سليخ، ما عدا البيوت والدكاكين والحواكير.. بس كان بخيل، هوي ومرته ما خلفوا غير ولد واحد اسمه بكري، سماه بكري لأنه كان مفكر إنه راح يكون بكر الأولاد، وبعده راح تكر المسبحة، لكن أم بكار انصابت بمرض أثَّر عَ المبايض وما عاد ممكن تخلف، وأبو بكار ما بيتزوج على مرته، لأنه الزواج بيكلف مصاري، وكان يقول إنه الإنسان العاقل لازم يكون متل الكر، وما يوقع في الجورة مرتين.
كان بكري من جيلي، وكنا نناديه بكار، لأنه أبوه مسمي حاله أبو بكار، وكانوا أهل القرية يضربوا فيه المتل بالنحس.
أبو جهاد: عجيبة. ليش في حدا في العالم منحوس أكتر منك يا أبو الجود؟
أبو الجود: أنا منحوس وما معي مصاري، والمرحوم أبوي طول عمره ما لقى في جيبه أكتر من ربع ليرة، لكن نَحس بكار كان مضاعف، لأنه أبوه بهديكه الأيام كان مليونير، وهو المسكين مو شبعان اللقمة، وتيابه على طول مشرشحة، ولما بيخرَم عَ سيجارة كان يروح ع الساحة اللي قدام الجامع ويطلب من الشباب الواقفين يضيفوه سيكارة، أو ع القليلة شحطة..
أبو محمد: أنا كان عندي عشر ولاد وكنت أشتغل بالليل والنهار حتى ما أحرمهم شي، بدي أفهم هادا أبو بكار أشو معدنه؟ مليونير وعنده ولد وحيد وما بيعطيه خرجية؟
أبو الجود: أبو بكار مجنون حاشاك. أنا مرة حضرت حديث بينه وبين عمي أبو محيو، المنطق تبعه غريب فعلاً. كان عم يقول إنه الولد اللي بيعتمد على أبوه بيطلع مايع وتشتوش واتكالي..
رد عليه أبو محيو: يا سيدي خليه يطلع مايع وتشتوش. يا زلمة هادا إبنك الوحيد، وإنت لمين بدك تترك كل هالأراضي والبيوت والدكاكين؟
أبو بكار: أنا ما عندي وريث غير بكار. يبقى هوي بياخد الرزق، ويصطفل، أيش ما بده يعمل.
أبو محيو: بياخد الرزق كله وبيتنعم فيه بعدما تموت إنت؟ يا أخي بلكي إنت طولت؟ من هلق لتموت بتخلي إبنك عايش عيشة الكلاب؟
أبو بكار: وليش حتى يعيش عيشة الكلاب؟ خلي يروح يشتغل ويطلع مصاري ويصرف ع حاله. هلق أنا لو كنت فقير مين مجبور يصرف علي؟ في غير بكار؟
أبو محيو فقد أعصابه وقال له: بس إنته مانك فقير. يخرب بيتك ما أقل وجدانك.. شيل كل جمعة عشر ليرات وناوله إياها لإبنك أحسن ما عم يشتهي على ريحة السيجارة اللي بيدخنوها ولاد الفقرا.
ولما كبر بكار وصار في سن الزواج القصة تعقدت أكتر. بكار طلب من أبوه يزوجه، قام عمل له محاضرة من كعب الدست، وصرخ في وجهه، وبزق عليه، وانجبر بكار ليلتها يطلع برات البيت، وراح لعند رفيقنا حسن وقال له نيمني هالليلة عندك، متخانق مع أبوي. غاب ليلتين تلاتة أربعة.. وأبوه ما سأل عليه، ولما طلبت منه أم بكار يرجعه ع البيت قال لها:
- يرجع مين ماسكه؟ على علمك أنا قلعته ولا هوي طلع بدون سبب؟
أم بكار: طلب منك تزوجه، خلص قله ما بدي أزوجك، كان ضروري تصرخ في وجهه وتبزق عليه؟
أبو بكار: أنا دخيل قلب الأم الحنونة. خلص اتركيه، هوي لما بيبرد وبيحس بالجوع بيسحب دنبه وراه وبيرجع.
بكار رجع فعلاً، وما عاد فتح لأبوه سيرة الزواج، لكن أهل القرية بلشوا ينقوا على أبو بكار ويقولوا له (إبنك وحيد يا أبو بكار، زوجه على حياة عينك، بركي مرته بتحبل وبيصير عنده ولد، الولد بينادي لك يا جدي، وبتحطه بحضنك، وبتعطيه خرجية، وهوي بيبوس إيدك وبيقول الله يرزقك يا جدي).. ولما أبو بكار سمع هالحكي فرط من الضحك، وقال للشخص اللي مقابله:
- أنت مجنون؟ أكيد عقلك مو براسك، أنا بدي حط عشرة آلاف ليرة اشتري فيهن دف وموبيليا وتياب نسوانية وأجيب بنت الناس أحطها في داري وأعلفها؟ ما بيكفي عم إعلف إبني بكار وتاركه يسند حيطان الضيعة بلا شغل ولا عمل؟ ولأيش بدي أشوف خلفته؟ الرجال اللي شافوا خلفة ولادهم أشو استفادوا؟ بالأخير ماتوا، وبقيت الخلفة العاطلة عايشة، وورتوا المصاري وصاروا يتبردحوا فيها. بعدين من كل عقلك أن أحط إبن إبني بحضني؟ بركي شَخّ؟ قديش بدنا نصرف لودالين ومنظفات حتى ننضف السروال تبعي؟ أنت ما بتعرف إنه سعر اللودالين طالع؟
أم زاهر: يخرب بيته. هادا إنسان ندل.
أبو الجود: تذكرت هلق حكاية قديمة كتير. بوقتها أجوا رفقاتي يسهروا عندي وبيناتهم بكار. كان عمرنا بهديكة الأيام شي 17 سنة، أنا كنت مبطل من المدرسة، وكان بكار في الحادي عشر، ومصطفى وأحمد وإبراهيم معه بنفس الصف بس هني بالفرع العلمي، بكار أدبي.. قال مصطفى:
- أنا مفكر السنة اللي جاية أدرس منيح منشان أدخل كلية الطب. أنا حلم حياتي يا شباب إني أصير دكتور، وألبس هالصدرية وأعلق السماعة برقبتي، ويمشوا وراي هالممرضات لما بدي أعمل جولة ع المرضانين.
قال إبراهيم: أنا ما بيهمني المجموع، أمل حياتي أني أتطوع في الجيش وأصير ضابط.
وقلت أنا: أنا حلم حياتي يسحبوني ع الجيش وأخلص عسكريتي وإرجع ع الضيعة وأتزوج. الحياة بلا مرا ما بتنطاق يا شباب. إنته أشو رأيك بكار؟
زفر بكار زفرة طويلة وقال: أنا أمل حياتي إنه يموت أبوي!
(للقصة تتمة)