سيرة العقل والجنون (14)
عاد صديقنا الظريف أبو الجود إلى صدارة سهرة "الإمتاع والمؤانسة" بقوة. أدهشنا، خلال السهرة الماضية، بالحكاية التي رواها عن ابن قريته البخيل، أبو بكار، الذي كان يحرُم ولدَه الوحيد بكار من التمتع بمباهج الحياة، بحجة سخيفة هي أنه لا يريد أن يصبح ابنُه اتكالياً، طامعاً بمال أبيه، فالمفروض به أن يكد ويشقى ولا يعيش على حلم الميراث، فالذين ينتظرون الميراث هم الكسالى، والتنابل.
ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفينة أبو بكار، فابنه الوحيد بكار، المحروم حتى من ثمن سندويشة فلافل، لم يرضخ لرغبته في أن يكد ويتعب ويعتمد على نفسه، وبقي يعيش على الحلم بيوم تصبح فيه هذا العقارات كلها ملكه.
كان أبو بكار يقول لرفاقه، وكله ثقة بنفسه:
- ابني بكار، لما الدنيا بدها تعركه، راح يحبني كتير، ويدعي لي الله يطول عمري، لأني عم أربيه بشكل جيد، وأخليه يعتمد على نفسه..
ولكن هذه النبوءة لم تتحقق، بدليل أن بكار كان جالساً، ذات مرة، بين أصدقائه، وكل واحد يعرض أمله في الحياة، فلما جاء عليه الدور قال:
- أملي في الحياة أن يموت أبي قبل أوانه!
ليس هذا وحسب، بل إن بكار، حينما تلقى نبأ وفاة والده أثناء تسكعه مع أصدقائه على بيدر القرية، ظهرت عليه علائم الفرح، ورفع يديه إلى السماء وقال: يا مَن أنت كريم يا رب. وهرع إلى البيت وكأنه غير مصدق الخبر، وقال لوالدته التي كانت تبكي:
- البكي ع الميت ما بيقدم ولا بيأخر يام. بعدين إنتي مرا كبيرة بالعمر والبكي بيأثر على صحتك. ولا تنسي أن الإنسان ما بيموت غير في يومه، وبالنسبة لأبوي خلص أجله، يعني باختصار الله أخد أمانته.
بعدما انتهت أم بكار من وصلة البكاء، طلبت من بكار أن يعمل لوالده مظاهر تعزية تليق به، فينصب سرادق عزاء من النوع الممتاز، ويأتي بمقرئ ذي صوت حسن يقرأ له آيات من القرآن الكريم، ويستأجر عاملاً لتقديم القهوة المرة للمعزين، ويذبح خروفاً ويوزع لحمه عن روحه، ويوصي على كمية مبحبحة من الصفايح واللحم بعجين وعش البلبل مع الفليفلة والبصل الأخضر والعيران، وبعدما يأكل المدعوون ويقرأون الفاتحة، يقدم لهم الشعيبيات والكنافة أم النارين، والسجائر مع الشاي الخمير.
قال بكار لوالدته:
- الله يطول عمرك يام، إنتي بتموني علي، وأنا ما بخالف رأيك مهما صار، لكن إنتي بنفس الوقت عم تنصحيني أني أعمل شغلات ما راح يرضى عنها أبوي الله يرحمه!
فنجرت أم بكار عينيها من دهشة وقالت:
- أيش عم تحكي يا إبني؟ معقول أبوك ما بيرضى عليك إذا بتكرمه؟
بكار: والله إنتي قلبك طيب يا يام. عشتي مع أبوي 35 سنة ولهلق ما بتعرفي طباعه؟ أبوي ما بيحب الصرف والبعزقة. يوم مات عمي أبو سليمان الله يرحمه، اجتمعوا الناس على باب دارنا، لحتى يساعدونا بعملية الدفن، وأجت عمتي خيرية وصارت تنق على أبوي. قالت له نفس الكلام اللي عم تقوليه إنتي هلق. ولما عمتي طلبت منه يفتح صيوان قال لها:
- لأيش الصيوان يا خيت؟ بدك المعزين يصير معهم ضيق نَفس؟ الحمد لله أخوي أبو سليمان مات في الربيع، والجو قدام باب الدار من أحلى ما يكون.. هلق منجيب شوية كراسي ومنقعّد الناس، والكراسي لازم يكونوا قلال، حتى القاعدين لما بيشوفوا غيرهم واقف بيستحوا على حالهم وبينصرفوا، ولأيش الواحد يطوّل في القعدة؟ هادا اسمه عَزَا، مو مقهى.
ولما جابت عمتي سيرة دبح الخروف، تأثر أبوي كتير، وقال لها: أيش ذنب الخروف المسكين حتى ندبحه؟ والله يا أختي أنا قلبي رقيق، وما فيني أشوف منظر الدبح والدم. قالت عمتي:
- طيب بلا الخروف. خلينا نقوم بواجبات الضيافة والذي منه.
قال لها أبوي: الناس بيعملوا ضيافة في العرس، مو بالعزا، وأنا أكتر شي بتضايق من ضيافة القهوة المرة، بتلاقي الواحد عم يشرب ويبلل الفنجان بشفاتيره، ونفس الفنجان بيشرب فيه واحد تاني، إذا واحد من بين هالناس معه مرض بينتقل المرض للكل، بعدين القهوة بتنبّه الأعصاب، والناس اللي بيجوا ليعزونا أيش ذنبهم حتى نشربهم قهوة ويروحوا ليناموا بالليل وما عاد يجيهم نوم؟ وبالنسبة للحم بعجين وعش البلبل والصفايح عبارة عن دسم، والدسم بيعمل كوليسترول، والكوليسترول بيترسب ضمن الشرايين وبيصير فيها تَضَيُّق، ولما بتجي الجلطة، بيتحرك الدم بيلاقي الشرايين ضيقة بيموت الزلمة، بيرضيكي نحن نكون سبب بوفاة المعزين يا أختي؟ بعدين الشعيبيات والكنافة اسمها حلويات، وأكل الحلويات بيوقف الجهاز المناعي عن العمل، يعني لا سمح الله إذا الواحد أكل حلو وتعرض لأي مرض، جسمه ما بيقاوم، وخصوصي الرجال اللي معهم سكري، هدول بالأصل بيكونوا ممنوعين من أكل الحلو، ولما بيجوا ع التعزية وبيشوفوا هالكنافة اللي لونها أحمر متل جنح الدبور قدامهم بتضعف مقاومتهم، وبيبلشوا ياكلوا بلا شفقة، ومريض السكري اللي ما بينمنع عن أكل الحلويات بتعرفي أيش بيصير فيه؟
قالت عمتي: أيش بيصير؟
قال أبوي الله يرحمه: بتصير معه مضاعفات خطيرة، ممكن، لا سمح الله تنفصل شبكية العين والمريض ممكن يفقد البصر، ومنكون نحن السبب، ولما بيروح عالبيت وبتشوفه مرته، وبتسأله: وين أكلت حلو؟ بيقلها: في التعزية عند بيت أبو بكار، بتصير مرته تدعي علينا إنه الله يقصف عمرنا، يعني منكون عم نعمل خير بينقلب علينا!
لما سمعت أم بكار هالحكي من ابنها الوحيد زعلت كتير، وقال لإبنها:
- هلق هيك بدك تعامل أبوك اللي رباك وعلمك وساواك؟
لم يرد بكار على سؤال والدته الأخير، لأن سيارة البلدية حضرت وأطلقت زمورها.
قالت أم بكار: وين السيارات اللي استأجرتهم منشان ينقلوا الناس ع المقبرة؟
قال بكار: ما بدها سيارات يا أمي. هاي سيارة البلدية، بتاخدنا ببلاش، واللي عنده سيارة خاصة بيروح فيها، واللي ما عنده بيروح مشي. لا تنسي إن المشي بينشط الدورة الدموية!
(للقصة تتمة)...