سيرة العقل والجنون (15)
استهل أبو جهاد سهرة الإمتاع والمؤانسة بتوجيه اللوم إلى صديقنا الظريف أبو الجود، زاعماً أنه حَرَفَ السهرة عن مسارها، فبينما نحن نحكي عن العقلاء والمجانين راح يحدثنا عن رجل بخيل يدعى "أبو بكار".
الأستاذ كمال الذي يتعاطف مع أبو الجود وحكاياته، ويعتبره معلّماً في مجال القص الكوميدي الساخر، انبرى لأبو جهاد، موضحاً له أن شخصية أبو بكار البخيل التي يروي أبو الجود سيرتها عامرة بالجنون، بل إنها أقرب إلى الهبل، إذ هل يعقل أن يكون لدى المرء أراضٍ وأطيان وعقارات قيمتُها مئات الألوف في ذلك الزمان، أي ما يعادل عشرات الملايين بعملة اليوم، ويترك ابنه الوحيد جائعاً عارياً خَرِمَاً على سيجارة؟ وإذا سألت "أبو بكار" عن السبب يقول لك: خلي الأيام تذله وتهينه منشان يعتمد على نفسه!
وتابع كمال يقول:
- في المحصلة، الإبن "بكار" ذلته الأيام، وبذات الوقت ما استفاد من الدرس الممل اللي كان أبوه يكرره، يعني ما تعلم كيف يعتمد على نفسه، لأنه بيعرف إنه هوي الوريث الوحيد، وإن المسألة مسألة وقت، وبيموت أبوه وبياخد كل الثروة وبيعيش وبيصرف على كيفه. يا سيدي، أبو بكار مو بس مجنون، كمان عنيد. العناد ما كتير بيختلف عن الجنون. تصوروا، كل أهل القرية كانوا يقولوا له (أنت غلطان يا أبو بكار، وما بيجوز تحرم إبنك الوحيد من نعيم الدنيا) وهو بقي راكب راسه وما عم يسمع نصيحة من حدا لآخر حياته.. الله يرحمه على كل حال..
أم الجود: المهم يطلع الإبن عاقل وما يوقع بنفس أخطاء أبوه.
كمال: يا ريت يكون بكار عاقل. أنا بشوف أنه في عنده نترة جنون، لأن أبوه مات وخلف له ثروة طائلة، ومع هيك صار يجاكر، وما رضي يصرف عليه ألف ليرة أجور نقل الجثمان للمقبرة، وانتظر حتى أجت سيارة البلدية ونقلته، وما فتح مكان للتعزية، ولا قدم أكل وحلويات وقهوة للمعزين.
حنان: أنا بتوقع إنه بكار راح يكون أبخل من أبوه.
أبو المراديس: إذا بيكون بكار أبخل من أبوه بتطلع القصة تقليدية، وبتذكّرنا بحكاية البخيل اللي كان يمرّر قطعة الجبن فوق قطعة الخبز قبلما ياكلها، وبعدما مات صار إبنه ينتقده، ويقول (أبوي كان مُبَذِّرْ، أنا بمرر الجبنة من فوق الخبزة من دون ما تدقر فيها!). على كل حال خلونا نسمع تتمة القصة من أبو الجود.
أبو الجود: أخونا أبو جهاد قال إن هالقصة ما إلها علاقة بالمجانين، وأنا بدي أثبت له العكس. يا سيدي، في مرة من المرات، قبلما يموت الأب، صارت حادثة غريبة. كانت أم بكار عاملة غدا كويس، كبة مقلية وكبة مشوية، وشاكرية بلحم، وطابخة فريكة، وسالقة فروج، وراشّة ع الفريكة صنوبر ولوز محمصين بالسمن.. وقبلما يباشروا الطعام اندق الباب، ركض أبو بكار، وسكر باب غرفة الطعام ومشي باتجاه الباب البراني، ولما فتح لقى قدامه حمادة المجنون، قال له:
- نعم؟ ليش عم تدق بابنا؟ نحن منعرفك؟ أنت بتعرفنا؟ في بيناتنا قرابة؟ في بيناتنا شغل وتجارة؟
ضحك حمادة بهبل وقال له: أي ما بدها كل هالعلاك، أنا جوعان، شميت ريحة كبب طالعة من دارك، وأنا كتير بحب الكبب، اشتهيت، دقيت بابك. إذا ما بدك تطعميني خلص، أنا بنقلع لحالي.
أبو بكار: انقلع، وأوعى تجي لهون مرة تانية، يلعن جنونك.
غضب حمادة وقال له: ليش عم تلعن جنوني؟ ما بسمح لك. إذا بتسبني ع أبوي أو أمي أو أختي ما بزعل منك. بس جنوني خط أحمر.
وقبلما يصفُق أبو بكار الباب في وجّ حمادة، أجا إبنه بكار ليشوف أشو القصة، ولما سمع الحوار تعاطف مع المجنون، وقال لأبوه:
- ياب ما بيجوز نكسر خاطره، وع كل حال أمي مكترة أكل، خلينا نعطيه كم قطعة كبة وكاسة عيران.
في هاي اللحظة انهبل أبو بكار، وصار ينط لفوق وينزل لتحت، ويقول لإبنه:
- بدك تطعميه من الأكل اللي نحن عم ناكله؟ عم تحسب المجنون حمادة متلنا؟ لا خيو لأ، إذا بدي أطعميه ولا بد، في عندنا طبخة خبيزة من يومين، بقيان منها شوي في النملية، روح جيب الصحن وتعال.
صاح المجنون حمادة:
- الخبيزة البايتة خليها إلك أبو بكار. إذا فقت بالليل وشفت حالك جوعان جوعان بتاكل منها، اسمع مني كلها، أحسن ما تكبها، حرام، بينقصوا مصرياتك.
ومشي حمادة. وأبو بكار سكر الباب وقال لبكار:
- الله يلعن جنونه. نزع لي مراقي.
بكار: ياب ليش عم تلعن جنونه؟ ما شفت شلون انقهر لأنك سبيت عَ جنونه؟
أبو بكار عصب من بكار وقال له:
- طيب، فهمنا بقى، كمان إنته طلعت محامي للمجنون حمادة؟ يحرق أخت العيشة بهالضيعة، لو كنا في بلاد تانية ما كنت بتشوف شحاد في الشارع، وإذا انوجد الشحاد ما بيسترجي يدق باب حدا ويطلب منه معونة أو أكل، وإذا تجاسر وعملها بتحسن تطلب له الشرطة، بياخدوه عالمصحة العقلية وبيحطوه فيها، المجنون إذا أهله ما حووه الدولة مجبورة تحويه. ع كل حال تعال خلينا نتغدى قبلما يبرد الأكل.
حنان: بدك الصراحة يا أبو الجود؟ هالقصة روعة. أنا حابة أعرف أيش صار مع بكار بعدما توفى والده.
أبو الجود: صارت أشياء غريبة، كانت أم بكار لما بدها تطبخ أكلات صعبة ومعقدة تستعين بإمرأة من القرية اسمها "أم قدور". لما رجع بكار من المقبرة، بعدما دفن والده، مر على أم قدور، سألها:
- خالتي أم قدور بعد أمرك بدنا نعمل أكلة كبب بمعيتك. بس أنا ما بعرف أشو بيلزم لها وقديش بتكلف، إذا دفعت لك مصاري، بتشتري إنتي اللوازم وبتعملي لي طبخة كبب؟
أم قدور: تكرم عينك يا بكار. بس هاي بتكلف يا عين خالتك. بدك عالقليلة أربعين ليرة.
قدور ناولها مية ليرة وقال لها:
- هاي مية ليرة، اشتري اللوازم بأربعين والباقي خليهن إلك. بدي الكبب يكونوا جاهزين المسا، بعد المغرب. أنا بمر عليكي وباخدهن.
المسا مر بكار على أم قدور أخد قراص الكبة وراح ع الخرابة اللي بيقعد فيها حمادة المجنون. سلم عليه وقال له:
- تعال نلحق الكبة وناكل منها وهيي ساخنة!
(للقصة تتمة)