سيرة العقل والجنون (17)
نشأت صداقةٌ غريبة من نوعها بين الشاب "بكار" - الذي يُفْتَرَضُ أنه عاقل - ومجموعة من مجانين القرية بعد وفاة والده البخيل الأسطوري "أبو بكار" الذي كان يحرمه حتى من خرجية الجيب.
السبب المباشر لنشوء هذه الصداقة الغريبة هو الموقف الذي شهده بكار في يوم بعيد من حياته، عندما كانت والدتُه تقلي أقراص الكبة بمساعدة السيدة أم قدور، وطرق "حمادة المجنون" البابَ طالباً أن يطعموه منها شيئاً، لأنه شَمَّ رائحة الكبب الزكية خلال عبوره الزقاق، واشتهاها، فزجره المرحوم أبو بكار، وسَبَّ جنونه، وحذره من المجيء إلى هنا تحت طائلة تسليمه لشرطة المحافظة، وحاول بكار، يومئذ، تسوية الموقف بينهما، بأن يعطيه قليلاً من أقراص الكبة، لئلا ينكسر خاطر حمادة الإنساني، ولكن والده رفض بشدة.. وفي نفس يوم وفاة أبو بكار، سارع بكار للحصول على أفخر أنواع الكبب، عن طريق أم قدور، ودعا إليها حمادة المجنون، ثم امتدت الدعوة لتشمل مجانين القرية الآخرين الذين يُعْرَفون بألقابهم المتداولة بين الأهالي: أبو الدكّ، وحَبَطْبَط، واخرطي، وطَقّ مْصَدّ.
كان الجو ربيعياً جميلاً، وأبو الجود حصل على إجازة من الخدمة العسكرية، وجاء إلى القرية لزيارة أهله، فرأى صديقَه "بكار" في جلسة حوارية جادة مع أصدقائه المجانين، على المرج الأخضر في مدخل القرية، وبعد أن سلم عليه، دعاه بكار إلى كأس شاي في منزله.
قال أبو الجود محاولاً تفسير ما جرى أمامنا:
- بصراحة، لما أنا شفت بكار قاعد مع المجانين، وداخل معهم في حديث جدّي تمخولت. حطيتْ احتمالْ إنه يكون جَنّ في غيابي، وأنا بشوف إنه هادا الاحتمال هوي الأقوى، لأن مو معقول مجانين ضيعتنا كلياتهم يصيروا عاقلين، ويقعدوا مع بكار العاقل، ويتناقشوا معه!
أم الجود: أنا بعرف بكار لما كان زغير، لأن بيت أبو بكار كانوا ساكنين في دار قريبة من دار أهلي.. كان يبقى ماشي في الأزقة وعم يحكّي حاله، وأنا كنت أقول لحالي (هالولد مو مطول حتى يجن).
أبو زاهر: مع احترامي لملاحظة أم الجود، أنا متابع الحكاية اللي عم يحكيها أبو الجود من أولها، ولحد هلق مو شايف سلوك بكار بيدل على إنه مجنون. تصرفاته فيها غرابة نعم، لكن مو مجنون أبداً.
أبو الجود: المهم، أنا بهداكا اليوم رحت لعند بكار عَ البيت، وكان قصدي أعرف أشو اللي صاير معه في غيابي. وخلال هالزيارة عرفت منه كتير شغلات. أول شي لما جاب الشاي أنا مزحت معه، وقلت له إذا خلال إجازتي عملت خالتي أم بكار أكلات طيبات اعزمني.. فضحك وقال لي: لازم أختبر عقلك بالأول، إذا مجنون بطعميك، إذا عاقل ما إلك نصيب عندي! وأنا مزحت معه وقلت له: عليّ الطلاق ما في أجن مني بكل هالمنطقة.
أبو جهاد: يعني كنت عم تنكت؟ إنت مجنون نظامي.
أبو الجود: يا أبو جهاد أنا معترف بالجنون. ما في داعي تتعب حالك. الخلاصة، حكى لي بكار إنه أول شغلة عملها بعدما توفى أبوه، راح تاني يوم على دائرة النفوس في معرتمصرين، وقدم بلاغ إنه والده توفى، وأخد من عند المرحوم فريد ياسين قيد نفوس بالوفاة، وراح من معرتمصرين على إدلب، وسلم معاملات حصر الإرث ونقل الملكية لمكتب سمسرة عقارية، وخلال مدة قليلة صار القسم الأكبر من أملاك أبوه بإسمه، والباقي للوالدة، ومن يومين باع قطعة أرض من حصته بمبلغ منيح، وبلش يحل مشاكل الشباب.
سألته: أي شباب؟
قال لي: هدول اللي كل أهل القرية بيقولوا عنهم مجانين، والولاد بيلحقوهم في الأزقة وبيصفروا لهم، وبيقهروهم، وأنا لحد هلق ما عرفت هالظلم هاد أيش أسبابه. طيب هدول الشباب اللي بيسموهم مجانين بأشو مضايقين الناس؟! هلق أنا بدي إسألك سؤال: بنت خالتك سعدى كيف أجت على دار أهلها من شي شهرين؟
فاجأني هالسؤال وقلت له: سعدى؟ يا سيدي مصيبة سعدى ما بتنوصف. كانت حامل، وأجا زوجها ع البيت بحالة سيئة، كان خسران راتبه في القمار، وسكران، ومحشش، ومن دخلته ع البيت ضرب الولاد، وحطهم في المطبخ، وقفل عليهم وهني صاروا يبكوا، ورفس سعدى كم رفسة على بطنها، وصارت تنزف، وشالوها ع المستشفى بإدلب، لقوا إن الجنين سقط، فعملوا لها (كورتاج)، وجابوها على بيت أبوها، وبعد كم يوم، لما طابت وشفيت، طلب منها أبوها ترجع على بيت زوجها، رفضت، قام أبوها ضربها كمان، وأجبرها ترجع لعند زوجها.
قال بكار: طيب، زوج سعدى وأبوها عاقلين ولا مجانين؟
قلت له: أكتر من مجانين.
قال لي: طيب ليش ما بيلحقوهم الولاد في الأزقة وبيصفّروا لهم؟
قلت له: ولاك أبو كرم هلق إنت بدك تصلح الدنيا العوجا؟ اتروك هالجنون وروح تزوج وخلف ولاد وعيش حياتك.
ضحك وقال لي: مين قال أنا بدي صلح الدنيا؟ كل ما في الأمر أنا عندي مصاري إذا بعيش مية سنة وعم إصرف منهن ما بيخلصوا. منشان هيك بدي خلي هالشباب اللي بيسموهم مجانين ياكلوا لقمة طيبة، ويتدفوا لما بتكون الدنيا برد.
قلت له: لا تواخذني هادا حكي فاضي. إنته مو مسؤول عن هدول الناس، لأن مو إنت اللي خلفتهم. مو بتعرف إن كل واحد منهم عنده أب وأم وإخوة؟ طيب ليش أهاليهم تاركينهم في الشوارع؟
مرة تانية ضحك وقال لي: أنا كان عندي أب وكان تاركني في الشوارع. ما بتتذكر كم مرة جيت لعندك بالليل ونمت عندك؟
قال كمال: بدك الصراحة يا أبو الجود؟ هادا بكار عنده فلسفة منطقية. وبالمناسبة، يمكن هاي أول مرة بيتناقش موضوع الجنون بهالشكل الرايق.
أبو محمد: طيب وبعدين؟ أيش صار؟
أبو الجود: اللي شفته يومها من بكار ما بنساه. أخدني ع الطرف الغربي من داره. في فسحة كان أبوه يزرع فيها بقدونس وبندورة وبصل.. جايب حجار ورمل وشمينتو، ومتفق مع معمارجي بده يعمر أوضة نوم كبيرة، منشان ينيم فيها المهابيل. وبده يعمر لهم حمام للاغتسال، ومرحاضين.. وقال لي إنه بكرة، يوم الجمعة، بدهم يسافروا سوا ع معرتمصرين، ويشتري لهم تياب وأحذية وبده ياخدهم ع الحلاق.. وتواعدنا أنه يمر عليّ بعدما يرجع. وبالفعل مر. وعرفت منه تفاصيل كتيرة.
(للقصة بقية)