سيرة العقل والجنون (25)
تمكن أبو الجود من جعل الحاضرين في سهرة الإمتاع والمؤانسة يتعلقون بالحكايات التي يرويها عن ابن قريته "بكار" الذي كان يؤوي مجانين القرية في بيته، ويطعمهم من أطايب الطعام، ويدافع عنهم، حتى إنه اضطر، وهو في موقف الدفاع عن النفس، أن يكسر يد "أبو خالد" والد الفتى المجنون "أبو الدك"..
وببراعة منقطعة النظير تمكن أبو الجود من إدخال شخصية محببة إلى السياق، هي شخصية مدير ناحية معرتمصرين الرائد فاتح، فارتفعت سوية الحكايات، ودخلت في مرحلة جديدة، لا سيما أن مدير الناحية عنده ابنة جميلة ومتحررة، وقد حضرت زوجتُه وابنته الصبية إلى قرية البلاطة، تلبية لدعوة بكار إياهم على الغداء..
أبو الجود: نسوان قريتنا لما شافوا أم عمر والبنت الصبية، ولباسهن المتحرر، وجايين يزوروا بكار، صار عندهن فضول ليعرفوا أشو القصة.. ولأن بكار أعزب، وغني، بلشوا يفكروا بأنه هالزيارة مو لوجه الله، وأكيد بكار أخد أمه وخطبت له البنت، وأهل البنت جايين يتعرفوا على بيت بكار اللي راح تسكن فيه بنتهم بعدما تتزوج.
أم زاهر: بتعرف يا أبو الجود؟ أنا ماني من قريتكم، بس لو كنت بوقتها موجودة كنت راح أفكر بنفس الطريقة.
أبو الجود: نعم. ومن قوة الفضول أجوا كم واحدة من النسوان لعند أم بكار بحجة مساعدتها في الطبخ، وصارت الوحدة منهم تقرب راسها من راس أم بكار وتسألها: وين تعرفتوا على هالعروس؟ يعني في حدا دلكن عليها؟ ويا ترى هاي بتحسن تعيش معنا في القرية؟ وبدها تبقى هيك طالعة بالقرعة (أي بلا غطاء رأس) ولا بدكن تغطوها؟
فهم بكار من مجمل حديث المجانين أن "أبو الدكّ" مشى في المقدمة، وبقية الشلة مشوا وراءه، دق الباب، طلع له أخوه محمود، سأله: خير؟ أشو في؟
والمسكينة أم بكار ما كانت بتعرف تجاوب على هالأسئلة، لأنها ما بتعرف شي عن الموضوع، وكانت، بنفس الوقت، مشغولة بترتيب الأكل ومتطلباته.. واللي صار أن الست أم عمر زوجة مدير الناحية وبنتها الصبية دخلوا ع المطبخ، وسلموا عالنسوان الحاضرات، وسلمت ع الست أم بكار بحرارة، وقالت لها: تشرفنا بمعرفتك، وشكراً إلك على هالدعوة اللطيفة.. وإذا في شي منحسن نساعدك فيه أنا وعفراء..
حنان: أيوه، يعني الصبية اسمها عفراء.
أبو الجود: نعم. ونسوان قريتنا تركوا أم بكار مع أم عمر وعفراء وطلعوا، لأن كل وحدة منهن في إلها ناس بره عم يستنوها لحتى يعرفوا أيش القصة، وبهداكا اليوم صار بكار بطل، لأن ما في رجالين أو تلات نسوان اجتمعوا في القرية إلا وحكوا في موضوع خطبة بكار لبنت مدير الناحية عفراء.
أبو ماهر: بتصدق يا أبو الجود؟ أنا هلق بتمنى إنه بكار يتزوج هاي البنت، كتير مناسبين لبعضهن.
أبو الجود: والله وأنا متلك. ولما بكار حكى لي القصة سألته نفس السؤال. قلت له (ما خطر لك تخطب البنت)؟ فضحك بكار وقال لي: الطبل يا أبو الجود في حرستا والعرس في دوما. أنا في هداك اليوم ما كان عندي هَمّ غير مشكلة "أبو الدك"، لأن لما عرف إن أبوه تسلبط عليّ بمية ليرة طق عقله مرة تانية، وخلال وجود الضيوف عندي تسلل هوي وزملاؤه المجانين وطلعوا من الدار.
حنان: أف. هاي بقى قصة تانية.
أبو الجود: نعم. مدير الناحية طلب من بكار إنه يعرفه ع الشباب المجانين، دخلوا هوي واياه عَ الجناح المخصص إلهم، ما لقوا حدا. قال بكار لأبو عمر: يمكن طالعين يتنزهوا.. يا إما طلعوا حتى أنا ما إنحرج من وجودهم قدامك..
ووعده لأبو عمر بأنه يعرفه عالشباب المجانين لما بيرجعوا. وبعد شي نص ساعة، كانوا الكل قاعدين عم يشربوا شاي، دخل ولد عمره شي عشر سنين، باتجاه بكار، همس في إدنه بكلام.. بكار تفاجأ.. وقف، واستأذن من أبو عمر والضيوف، وطلع من الغرفة، وراح مباشرة على جناح المجانين، لقاهم ساكتين وعم يتطلعوا في الأرض. سألهم: أشو في؟
قال المجنون طَقّ مْصَدّ: أبو الدك تخانق مع أبوه.
بكار: له له. ليش؟
طَقّ مْصَدّ: لأن أبوه مو كويس حاشاك. كان لازم يجي لعندك ويتشكرك لأنك حاوي إبنه في دارك وعم تصرف عليه، لكن عمل العكس، اعتدى عليك، وأخد منك مية ليرة غرامة.
بكار: وأشو اللي صار؟ كيف تخانقوا؟
فهم بكار من مجمل حديث المجانين أن "أبو الدكّ" مشى في المقدمة، وبقية الشلة مشوا وراءه، دق الباب، طلع له أخوه محمود، سأله: خير؟ أشو في؟
قال أبو الدك: سمعت إن أبوي مكسورة إيده، بدي فوت لعنده وأستفقده.
أبو خالد، لما شاف إبنه "أبو الدك" داخل لعنده ووجهه مخربط، حس بالعطب، ووقف ومسك البريم بإيده الصاغ، وسند ظهره ع الحيط، بوضعية الدفاع، أبو الدك طمنه، قال له: لا تخاف. أنا مو قليل تربية حتى أمد إيدي عليك وأضربك. بس في حساب بيني وبينك بدنا نصفيه. تفضل استريح.
قعد أبو خالد، وقعد مقابيله أبو الدك ع الأرض، وقال أبو الدك: هاي المية ليرة اللي أخدتها أنت من بكار لازم ترجع إلي. أنا صحيح مجنون، بس عقلي لساته شغال. وراح أفهمك كل شي. لولاي أنا ما كنت أنت هجمت على بيت بكار، وما كان بكار ضربك بالعصاية وكسر إيدك، وبالأخير راضاك بمية ليرة. صح؟
أبو خالد: صح. بس أشو معنى هالحكي؟
أبو الدك: معناه أن المية ليرة من حقي أنا. يا الله تحكوك وناولني إياها.
أبو خالد: اللي عم تقوله حكي فاضي. أنا انكسرت إيدي، وصار عندي عطل وضرر، وهاي المية ليرة بترجع إلي.
وقف أبو الدك، ومشى إلى النافذة، وأبعد عنها الستارة، وطلب من أبيه أن يأتي، فأتى، فقال له: أنا عندي شغل وماني فاضي لك. شايف هدول الشباب؟ كمان مشغولين وما عندهم وقت يضيعوه. بقى يا بتعطيني المية ليرة وبتخليني أتيسر على شغلي، يا إما بعطيهم إشارة يجوا يساووا لك اللازم.
أبو خالد عرف أن الحديدة حامية، فأخرج المئة ليرة وسلمها لأبو الدك. وأبو الدك جاب المية ليرة وسلمها لبكار.
(للقصة تتمة)