سيرة العقل والجنون (29)
لو أن الفتى العاقل -المجنون سابقاً- أبو الدك، قال لأبيه إنه يريد أن يتزوج عفراء ابنة مدير ناحية معرتمصرين، فلا شك أنه لن يكتفي بضربه بـ "البريم"، مثلما جرت العادة من قبل، الاحتمال الأكبر أن يستخدم رجليه في تأديبه، متمثلاً عمليةَ عصير الحصرم، إذ كانوا، قبل اختراع عصارات "مولينكس"، يضعون الحصرم في كيس من القنب، ويخيطونه، ويصعد فوقه صاحب أثقل وزن في الأسرة، ويبدأ بالتعجيق عليه، لكي ينعصر.. وقد يضربه ضرباً، بلا تركيز، يؤدي إلى فقدانه إحدى عينيه مثلما حصل مع شقيقه محمود الذي تجرأ على أبيه وطلب منه نصف ليرة قيمة دفتر للمدرسة، فضربه دون وعي، فخسر المسكين عينه.
قال أبو الجود: لكن حظ أبو الدك كويس، لأنه قال هالعبارة قدام صديقه المحترم بكار. وبحسب ما حكى لي بكار إنه لما سمع من أبو الدك إنه حابب يخطب عفراء بنت مدير الناحية انصدم..
أم زاهر: أكيد بده ينصدم، لأن هوي أكيد كان عم يفكر يخطبها لنفسه.
أبو الجود: مو بس هوي عم يفكر فيها، كتير نسوان من القرية كانوا يجوا لعند أم بكار، ويسألوها عن سر الصداقة اللي بتجمع ابنها بكار مع أسرة مدير الناحية، ويوصلوا بالأخير للسؤال الأساسي، وهوي إنه ليش ما بتخطبي له هالبنت الكويسة عفراء؟ وأكتر واحدة ألحت عليها هيي الجارة أم حمودي. أجت لعند أم بكار، بعدما شافت عفراء بيومين، وقالت لها: بقلك شغلة بيني وبينك يا أم بكار؟ صحيح بنت مدير الناحية مشلّطة (أي قليلة الاحتشام)، بس يا ياب ما أكوسها، والله لو يعطوني إياها لإبني حمودي لأروح من الصبح وإطلبها.
ولما لاحظت أن أم بكار عم تتطلع فيها باستغراب قالت: أشو؟ مفكرتيني عم إمزح؟ والله العظيم بخطب له ياها.
أم بكار: بتاخدي لإبنك بنت مشلطة؟
أبو الدك: يا أبو كرم أنت هيك عم تضغط علي. يعني يا إما خيرية، يا إما ما بتساعدني بالزواج؟
أم حمودي: هلق مشلطة، بس إبني حمودي، ما شاالله عليه، راسه أيبس من راس الجحش، بعدما تصير من نصيبه ويتزوجها بيطلب منها تتغطى متل نسوان القرية، وإذا ما تغطت بيكبسها قتلة أو قتلتين بيخليها تتغطى ورجلها فوق راسها..
أم بكار: وما بتخافي أبوها يبعت دورية شرطة ويكبسوه لإبنك قتلة أو قتلتين يخليه يقعد عاقل ورجله فوق راسه؟
أم حمودي: قولك بيعملها؟
أم بكار: والله ما بعرف. على كل حال إبني بكار ما بيحب القتل والضرب.
أم حمودي: طيب يا ستي، بلا ما يقتل ويضرب، بتروحي إنتي وبكار، وبتعملوا لهم زيارة، وبتطلبي له ياها، وبتقولي لأبوها يا خاي يا أبو عمر، اللي أوله شرط آخرته سلامة، بدنا ناخد هالبنت لهالشاب، لكن بشرط إنها تغطي راسها، وتلبس كم طويل، ومانطو فوق تيابها. إذا وافق بيكون منيح، إذا ما وافق بتديري ظهرك وبترجعي، ويبقى بتخطبي له بنت من القرية، وفضت يا عرب.
قال أبو ماهر: هلق إنته ضيعتنا يا أبو الجود، وإذا بتريد خلينا نرجع للأول. المرة الماضية حكيت لنا أن أبو الدك قال لبكار بدي إتزوج عفراء. أيش رد عليه؟
أبو الجود: رد عليه رد كويس كتير. قال له: شوف يا خالد، من حق كل شاب يخطب البنت اللي بيختارها، لكن الرجل الحقيقي هوي اللي بيحاول يحقق الشي اللي بده ياه بزنده.
أبو الدك: ما فهمت.
بكار: لما أنا بعرض عليك الزواج من خيرية، مستعد أساعدك بهالموضوع من هلق لحتى تصير خيرية في دارك، ولما إنته بتختار بنت تانية أنا ما في علي مسؤولية، يعني ماني مجبور أروح وأطلب لك إياها.
أبو الدك: يا أبو كرم أنت هيك عم تضغط علي. يعني يا إما خيرية، يا إما ما بتساعدني بالزواج؟
بكار: ما عم إضغط منشان خيرية بالذات، أي بنت بتحط عينك عليها وبتخطبها وبترضى فيك هيي وأهلها أنا مستعد أدفع لك مصاريف زواجك وآخد لك دار تسكن فيها. حتى عفراء، إذا بترضى فيك هيي وأهلها أنا مستعد أدفع لك كل شي.
أبو الدك: ومين بده يروح معي منشان إطلبها؟
بكار: ما بعرف. هاي مشكلتك.
أبو الجود: طلع أبو الدك من عند بكار وعقله عم يفتل في مكانه متل كأنه غازول. فكر إن بكار لسه ما تزوج، وبده يزوجني أنا، يعني الرجل مفضلني على نفسه، وبده يستأجر لي دار في معرتمصرين، وبده يفتح لي محل كومسيون في سوق الهال، لكن الشي اللي بيقهرني إني لما قلت له بدي إتزوج عفراء ما تحمس، ولا اعترض، قال لي هاي مشكلتك، يعني أنا لازم أخد أبوي يخطب لي ياها، يعني رجعنا للضرب بالبريم (العقال)، وإذا ما ضربني أبوي بالبريم، ممكن يقول لي نفس الحكي اللي قاله بكار (هاي مشكلتك)، وأنا إذا رحت لحالي وطلبت من مدير الناحية يزوجني بنته، أكيد راح يقلعني، وممكن يعمل لي قتلة. بس أنا حبيت عفراء. يا خيو هالبنت كويسة. بس كويسة؟ قسماً بالله بتفلج. من يوم شفتها لهلق ما نمت الليل، كلما غفيت بتطلع صورتها قدامي. يا ترى بكار بده يخطبها لنفسه؟ أوف. والله معقولة. ليش لأ؟ متلما أنا علقت فيها ممكن يكون هوي علقان فيها.
المهم يا شباب، تاني يوم الصبح، طلع أبو الدك من دار بكار قبلما يفيقوا رفقاته المجانين، وقف ينتظر عَ الكَرُّوزة (الطريق العام) لحتى مرقت سيارة رايحة ع معرتمصرين، ركب فيها وراح. ولما نزل من السيارة صار يسأل على دار مدير الناحية، وصار يمشي ويتلفت، ويسأل ويمشي ويتلفت، وفجأة شاف بنت واقفة ع الشباك. تطلع فيها منيح، البنت هيي نفسها، عفراء. هون صار فينا نقول إنه أبو الدك انهبل مرة تانية.
حنان: ليش ينهبل؟ إنته قلت إنه شافها قبل هالمرة. صح؟
أبو الجود: صح. شافها في القرية لما أجت مع أمها وأبوها على بيت بكار.
أبو محمود: أف! لكان ليش انهبل لما شافها ع الشباك؟
أبو الجود: انهبل لأن البنت كانت عم تتطلع فيه، وتبتسم. هوي تلفت، ظن أنها عم تبتسم لغيره، ما لقى حدا في كل الحارة. عطاها إشارة وسألها: أنا؟؟ قالت له: أي إنته. دار ظهره وصار يركض، التفت عليها لقاها فارطة من الضحك.
(للقصة تتمة)