سيرة العقل والجنون (3)
كنا نتحدث عن الولد المجنون "فريد إبن أبو خلّو" الذي ارتأى والدُه أن يبقيه في المنزل لئلا يطال أذاهُ أهلَ الحارة، ولكن جنون فريد طلع على والدته المسكينة، فكادت أنت تجن من تصرفاته ومشاغباته.
الأمر المفاجئ أن فريد، حينما عاد والدُه وشقيقاه الكبيران خليل وأحمد من الفلاحة، تحلى، فجأة، بصفات الولد العاقل، وخاطب أباه بكلمة نادراً ما تُستخدم في مناطقنا وهي كلمة "بابا".. ورجاه أن يرسله إلى المدرسة، كغيره من الأولاد في سن السابعة، لأنه يريد أن يتعلم، فالعلم نور.
قال أبو الجود: قبلما يكمل أبو مرداس السالفة بدي أحكي لكم عن مجانين عيلتنا.
ضحك أبو جهاد وقال: بعيلتكن ما في حدا مجنون غيرك.
أبو الجود: أنا مجنون بنظرك، ومرتي كمان بتقول عني مجنون، على عكس أبوي الله يرحمه، كان يقول إني عاقل، بس "جحش"! مرة من المرات كان جحشنا مريض فقال لي أبوي تعال يا أبو الجود شيل كيس البرغل على ضهرك خلينا نوصله ع السوق، طبعاً أنا نفذت الأمر، وأبوي من خوفه عالبرغلات مشي جنبي ومسك الكيس بإيديه التنتين، وبعدما مشينا شي خمسمية متر تلاقينا بجارنا أبو عبسي، سلم على أبوي وقال له: ليش محمل كيس البرغل ع أبو الجود؟ ما عندك جحش؟
قال له أبوي: عندي جحش، بس أشو بتفرق؟!
ضحك الحاضرون، وقالت حنان: أنا شايفة هاي قصة تانية، ما إلها علاقة بالمجانين.
أبو الجود: إلها علاقة ونص. إنتي يا ست حنان مفكرة إنه أبوي وأبو العبسي عاقلين. علي الجيرة إذا بتجيبي لجنة طبية ع ضيعتنا وبيعاينوا أهل الضيعة ما بتلاقي غير 10 % عاقلين، والباقي مأجرين الطابق الفوقاني.
كمال: نحن، يا أبو الجود، عم نحكي ع المجانين الواضحين اللي في اتفاق تام عليهم إنهم مجانين.
حكى له الختيار التاني إنه أبو محيو عم يلم مصاري من أبناء العيلة منشان الطوارئ، فضحك الختيار الأولاني وقال له: أحسن ما يلم مصاري خليه يلم هالمهابيل من الشوارع!
أبو الجود: طيب. وأنا راح إحكي عن مجانين عيلتنا الواضحين. عمي أبو محمد وأبو جهاد وأبو مرداس بيعرفوا إنه عيلتنا ما في أفقر منها، ولا في أنحس منها، ومع هيك بيعتقدوا إنهم ولاد عيلة أكابر، منشان هيك كل واحد منهم بيتجوز بنت عمه أو بنت خاله، وإذا بيجي عريس لوحدة من بنات العيلة بيقولوا: ما منعطيها، لأن اللي عم يخطبها عيلته مو من مستوى عيلتنا! وأنا ما كنت بعرف ليش عيلتنا فيها مجانين كتير، بس مرة أجا لعند أبوي دكتور من إدلب، وسمعته عم يقول له إنه زواج الأقارب بيخلي الأمراض الوراثية متل قصور البصر والسكري تنحصر فيكم، ولما سأله أبوي عن كتر المجانين في العيلة قال: كمان هاد أسبابه زواج الأقارب. منشان هيك أبوي وافق أني أتزوج هاي اللي قدامك أم الجود. يعني من سوء حظي صاروا يتزوجوا من بره العيلة!
أبو جهاد: يا خيو أبو الجود معلاقه كبير. لهلق ما وَصَّلنا للقصة تبعه.
أبو الجود: في عندنا بالعيلة رجال عاقل اسمه أبو محيو، خطر له مرة يعمل اجتماع للعيلة. اجتمعنا عنده. قال أبو محيو إنه عيلتنا فيها فقرا كتير، ولذلك عم يفكر يعمل صندوق، ويلم اشتراكات شهرية منا، ولما حدا من العيلة بيوقع بمشكلة مالية، منشيل مصاري من الصندوق ومندفع له. هون بقى منكون وصلنا للنكتة. في تنين ختايرة كانوا قاعدين عم يتشمّسوا في الزقاق القريب من دار أبو محيو، وشافونا عم نجي كل تنين أو تلاتة سوا.
واحد منهم سأله للتاني: أيش في عند أبو محيو؟ ليش ولاد عيلته عم يجوا لعنده؟..
فحكى له الختيار التاني إنه أبو محيو عم يلم مصاري من أبناء العيلة منشان الطوارئ، فضحك الختيار الأولاني وقال له: أحسن ما يلم مصاري خليه يلم هالمهابيل من الشوارع!
أبو المراديس: أنا وكمال متفقين على إن أبو الجود إله أولوية برواية الحكايات، لأن، بصراحة، كلياتنا ما منمتلك مقدرته على السرد، وأحلى شي عنده هو القفلة. وبما أننا سمعنا من أبو الجود، صار فينا نتابع سيرة المصروع فريد، وكيف تمكن إنه يلعب بعقل أبوه. أبو خلو كان متخذ قرار بمنع فريد من مغادرة الدار، وهلق صار أمام فكرة جديدة، وهيي إرسال فريد عَ المدرسة. ولما شاف أم خلو موافقة استغرب وقال لها: هون، في الدار، عم يطلع جنونه عليكي، وعلى أخواته البنات، بس المدرسة فيها معلمين ومدير وتلاميذ، إذا بيعمل مشكلة مع حدا بتتبهدل شيبتي قدام أهل البلد.
قبل ما ترد أم خلو، حكى فريد، وقال لأبوه: أنا ماني مجنون يا (بابا)، وإذا بتبعتني ع المدرسة ما بعمل مشاكل مع حدا، الأستاذ بيعطي الدرس وأنا بتسمّع، ولما برجع ع البيت بغسل إيدي وبلبس بيجامتي وبكتب الوظيفة، وكل شي.
قال أبو خلو: طيب روح إنت هلق، خلينا نتشاور أنا وأمك وإخوتك.
فريد: متلما بتؤمر بابا.
وبعد مغادرته أمسك أبو خلو رأسه بكلتا يديه وقال مخاطباً ولديه الكبيرين: الله أعلم أن أخوكم فريد بده يخلينا كلياتنا نجن ونهستر، أنا صار لي عايش مع أمكم تلاتين سنة بعمرها ما حكت لي حديث وشَكّيت أنها عم تكدب، لكن هلق صرت أشك إنه كل شي عم تحكيه عن فريد كذب. هلق شفتوا كل شي قدامكم، الولد عاقل، ومحترم، وعم يطلب إنه يروح ع المدرسة..
قاطعه خليل مبتسماً: كمان عم يقلك (يا بابا)!
قالت أم خلو: طول بالك خليل. ابوك عم يقول كلام بيخوف. أنا بكذب يا أبو خلو؟ هلق رايحة أفتح الباب للبنات وأخليهم يطلعوا من الأوضة ويحكوا لك أيش عمل فريد في غيابكم.
قال أحمد: أنا برأيي أن فريد مو مجنون، لكن شايف حاله إنه هوي آخر العنقود، ومجلوق. ياب خلينا نعمل تجربة. منسجله في المدرسة، ومنستنى كام يوم، إذا سبب لنا مشاكل منبطله ومنرجّعه ع الدار.
نفخ أبو خلو نفخة قوية وقال: خلونا نفكر. لسه معنا وقت.
(للقصة بقية)