سيرة المرشح البرلماني الفارط (1)
انتقلنا، في سهرة "الإمتاع والمؤانسة"، إلى سيرة جديدة. كان ثمة رجل من منطقتنا يدعى "عبد الحميد الفارط- أبو أيوب"، يعيش في قرية صغيرة تابعة لمنطقة أريحا، جنوبي مدينة إدلب، ظهر عليه الجنون وهو في الخمسين من عمره تقريباً، انتقل للعيش في إدلب، ورشح نفسه لعضوية مجلس الشعب.
قال كمال: وصحيح إن أبو أيوب مجنون، لكن ذكي.
أبو محمد: مجنون وذكي؟ شلون ركبت معك يا أستاذ كمال؟
كمال: بحكي لك عنه حكاية، وإنته لحالك راح تستنتج إنه ذكي. هادا لما ترشح أول مرة لعضوية مجلس الشعب، اعترض محافظ إدلب - باعتباره رئيس اللجنة الدستورية في المحافظة - على ترشيحه. هوي انقهر كتير، وراح لعند المحافظ، وطلب مقابلته، ولما شافه سأله: (إنت ليش معترض على ترشيحي؟)، قال له المحافظ: (بصراحة؟ قالوا لي عنك مجنون). فضحك عبد الحميد الفارط ضحكة مجنونة، وقال له: أي لا تصدق، أنا قالوا لي عنك حرامي وما صدقت!
أبو المراديس: القصة اللي حكاها كمال جميلة جداً، وصحيحة طبعاً، وأنا سمعتها بشكل موسع، إذا شي مرة سنحت لنا فرصة منحكيها بشكل أوسع. اللي بدي أقوله هلق إنه عبد الحميد الفارط "أبو أيوب"، مجنون فعلاً، وهوي نفسه اعترف بهالشي أكتر من مرة.
كمال: هادا، يا عمي أبو محمد، نوع خاص من الجنون، من تجلياته إنه الواحد بتطلع برأسه، مثلاً، يترشح لمجلس الشعب في وقت معظم الناس بيعرفوا إنه انتخابات مجلس الشعب مهزلة، وإنه اللي بدهم يصيروا أعضاء في المجلس عم تنحط أسماءهم في قوائم الجبهة الوطنية التقدمية بالتواطؤ بين ضباط المخابرات والقيادة القطرية تبع حزب البعث وقصر المهاجرين.. وفي نوع جنون لسه على أقوى، متل الأشخاص اللي طلعوا لنا فجأة، في سنة 2020، والناس عايفة حالها في المخيمات وبلاد اللجوء، وكل واحد من هالمجانين صار يقول إنه المجتمع الدولي قرر يشيل بشار الأسد، وإنه قادة الدول العظمى اختاروه هوي ليكون رئيس جمهورية (توافقي) مكان بشار!
أبو المراديس: الحقيقة مو بس عبد الحميد الفارط صدق. قسم كبير من الناس صدقوا، لأنه بهديكة الأيام، ولأول مرة من يوم استولى حافظ الأسد على مقدرات سورية قبل عشرين سنة، صاروا يتركوا شواغر للمرشحين الحياديين
أبو زاهر: لو بدهم يشيلوا بشار الأسد كانوا شالوه بعدما بديت الثورة سنة 2011 بأيام أو بكم شهر.. القصة ما بتكلفهم أكتر من تحضير مجموعة عسكرية تقوم بانقلاب، أو إرسال طيارة مسيّرة تضربه، متل يوم قرروا يتخلصوا من قاسم سليماني، يا إما بيهاجموه بجيوش جرارة وبيسقطوه متل لما أسقطوا صدام حسين ومعمر القذافي..
أبو المراديس: صحيح كلام أبو زاهر، بالإضافة إلى أنه مشكلة سورية اليوم ما عادت تنحل بتنحية بشار الأسد واستبداله برئيس عاقل، أو حتى برئيس مهبول، (أصلاً بشار في عنده عِرْق هبل) القصة صار بدها عشرين سنة إعمار، وأكتر من نص تريليون دولار.
أبو محمد: أنا شايف إنكم شعبتوا الحديث كتير. خلونا بسيرة أبو لأيوب. أشو حكايته هادا؟
أبو المراديس: في سنة 1990 يا عمي أبو محمد، سمع أبو أيوب إنه حافظ الأسد بده يعمل انفتاح سياسي، وراح تكون الانتخابات تبع مجلس الشعب اعتباراً من هالتاريخ حرة ونزيهة، فصَدَّقْ، وقرر يترشح.
أبو جهاد: طالما صدق فهوي مجنون أكيد!
أبو المراديس: الحقيقة مو بس عبد الحميد الفارط صدق. قسم كبير من الناس صدقوا، لأنه بهديكة الأيام، ولأول مرة من يوم استولى حافظ الأسد على مقدرات سورية قبل عشرين سنة، صاروا يتركوا شواغر للمرشحين الحياديين، وانوجدت إمكانية إنه ينجح أشخاص غير بعثيين ويملأوا هالشواغر، ولكن هالأشخاص لازم يكونوا من نوعيات معينة.. مثلاً، واحد كان مسؤول في الحزب أو الحكومة، وطلع تقاعد، بإمكانه يترشح وينجح إذا كان تاريخه بيشهد له بالولاء المطلق لحافظ الأسد وجماعته، وواحد معه شوية مصاري مو لازمته، بيكون تاجر مخدرات أو تاجر أسلحة، أو شبيح بيحل مشاكل للناس بطريقة غير قانونية وبيقبض عليها مصاري، هادا الشخص قادر يرشي أصحاب الحل والربط، وبالتالي بيترشح وبينجح.. ولحتى تاخد القصة طابع التنافس الشريف بيترشح كم واحد عندهم (خَضَّة) في عقولهم، متل أخونا أبو أيوب، وهيك بيكتمل العرس الديمقراطي (استبدادي مع جنون وهبل).
كمال: جميل جداً. هلق صار فينا نعتبر اللي قلته مقدمة للحكاية.
أبو المراديس: تمام. الحكاية بديت لما كان عبد الحميد الفارط في القرية، وسمع بموضوع الترشيحات لمجلس الشعب، وأعجبته الفكرة، وعلى الفور أخد رأي صديقه "فريج"، وهادا فريج واحد ذكي ومسخرجي، لذلك شجعه، لكن أحب ينصحه، فقال له إن الترشح هون في الضيعة نوع من الانتحار، لأن نحن أبناء ضيعتك، وعددنا تلات آلاف إنسان، بالكاد منعرفك، فشلون بدك توصل لتلات ملايين إنسان موزعين في كافة أنحاء محافظة إدلب وتخليهم يعرفوك، ويحبوك، ويوثقوا فيك، وينتخبوك حتى تطلع على مجلس الشعب وتمثلهم؟
بلع عبد الحميد ريقه بصعوبة وقال: أنا بدي أمثلهم؟
فريج: طبعاً. لكان ليش بدك تصير في مجلس الشعب؟ منشان هيك أنا بشوف إنك تنتقل لمدينة إدلب، لأن هناك مركز ثقل، وبيصير عليك متلما بيقولوا (أضواء)، وبتنشهر، وبتنجح ع المضمون.
أعجب عبد الحميد بالفكرة، وقال: خلص. اتفقنا. على خيرة الله.
وراح ع البيت فوراً، وطلب من زوجته تضبّ الشناتي وتجهز حالها هي والولاد حتى ينتقلوا لإدلب ويعيشوا فيها ويترشح هوي لمجلس الشعب.
أم الجود: هادا بالفعل مجنون. طيب هاي الشغلة بتكلف مصاري، وهوي أكيد فقير.
أبو المراديس: هوي فقير جداً، إضافة لكونه مجنون. لكن في القرى لما الرجل بتظهر عليه علامات الجنون بيبقوا أهله وبيت حماه متحملينه، وبتبقى زوجته عايشة معه رغم جنونه، لأن بيناتهن أولاد.. لكن لما طلع عبد الحميد بنغمة الانتقال لإدلب منشان الترشح لمجلس الشعب، وصلت الأمور بينه وبينها لنقطة التصادم. راحت لعند أهلها، وحكت لهم القصة، فطلبوا منها تسبقهم ع البيت، وبعد شوي أجوا إخوتها، واجتمعوا مع الأولاد، وطلعوا بنتيجة إنهم ما راح يطاوعوا عبد الحميد في تنفيذ هالمشروع الجنوني، لأن نتيجته معروفة، وما راح يجي من وراها غير البهدلة. وبما إن عبد الحميد مقتنع بالفكرة ومتشربها، ومصمم عليها، كان الحل الأنسب للطرفين إنه يطلق زوجته، ويتخلى عن الأولاد، ويروح يمارس جنونه بعيد عن القرية.. وأشقاء زوجته أكدوا إنهم ما راح يتخلوا عن إختهم وأولادها.. ولما ضب عبد الحميد شنتايته وطلع من البيت تبادلوا الأخوال وأولاد الأخت نظرة إشفاق، ولسان حال الجميع عم يقول: عبد الحميد هلق جن بشكل رسمي ونهائي، عليه العوض ومنه العوض!
(للقصة تتمة)