سيرة المرشح البرلماني الفارط (9)
لخص صديقُنا أبو ماهر ما رويناه في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" السابقة بقوله إن محافظ إدلب أحال طلب ترشيح بطلنا عبد الحميد الفارط إلى اللجنة الدستورية، وقررت اللجنة إبطال ترشيحه، وهذا أوقع أفراد شلة الفارط في مأزق وحيص بيص، وبعد محاولات عديدة تمكن أحدهم من أخذ موعد للمرشح الفارط مع المحافظ في مكتبه.
أبو المراديس: وعدتكم البارحة أني أحكي لكم عن وقائع اللقاء التاريخي بين المحافظ وأبو أيوب بالتفصيل. يا سيدي، لما دخل أبو أيوب وألقى التحية، تظاهر المحافظ بأنه مستغرق بمعاملة موجودة قدامه ضمن ملف البريد، وبقي أبو أيوب واقف على بعد مترين منه. ومع أنه أبو أيوب مجنون، وباعترافه الشخصي، صار بوقتها يركز بصره على وجه المحافظ المربع، الكئيب، الخالي تقريباً من أي تعبير، ولاحظ أن شعر دقنه غزير، وواصِل لتحت عينيه، وهادا النوع من شعر الدقون بيكون عادة قاسي، ولما بينحلق بيصير لون البشرة أزرق غامق، أقرب للون الأخضر. وفكر أبو أيوب أن تقليب البريد من قبل هالمحافظ العجيب أكيد مو ضروري، وخاصة إنه بيناتهم موعد، والأرجح أنه عم يتعمد هالشي حتى يحتقره، وبوقتها بلش جنونه يرتفع بالتدريج.. وتنحنح بصوت مرتفع، وشخر بنوع من الإغاظة، فرفع المحافظ راسه وقال له: إنت..؟ إنت مين؟
أبو أيوب: أنا اسمي عبد الحميد الفارط.
المحافظ: آ؟ تذكرت. أنت المرشح لمجلس الشعب! نعم؟ أيش بتريد؟.. اللجنة الدستورية رفضت ترشيحك.
عبد الحميد: ليش؟
المحافظ: أنا اللي طلبت منهم يرفضوه، لأن قالوا لي عنك مجنون!
تلفت عبد الحميد حواليه، فرأى رجلاً جالساً إلى طاولة جانبية يكتب بعض الأشياء على ورقة. قال: ممكن تقله لهاد الزلمة يطلع من هون؟ بدي إحكي كام كلمة بيني وبينك.
نظر المحافظ إلى الرجل، فما كان منه إلا أن خرج وأغلق الباب.
عبد الحميد: مو كل شي منسمعه لازم نصدقه يا محافظ. أنا مثلاً، لما قالوا لي عنك حرامي!..
فجأة حرك المحافظ رأسه بشكل لاإرادي، وكأن أحداً صفعه على حين غرة، وقال: ولاك حيوان! أيش عم تقول؟ أنا حرامي؟!
لم يسمع عبد الحميد رد الحاج نادر على جملته الأخيرة، إذ أن بعض الحاضرين تجاوبوا مع الموقف، وهتف أحدهم: بالروح بالدم نفديك يا حافظ..
عبد الحميد: أنا ما قلت إنك حرامي، قلت إني سمعت من الناس إنك حرامي، وبصراحة، أنا ما بعرف إذا كنت حرامي أو شريف، لأني أصلاً مو عايش في إدلب. كنت في القرية، وجيت لهون حتى أرشح نفسي لمجلس الشعب، وأظن إنه هادا من حقي.
المحافظ: كلامك بيوحي إنك عاقل.
عبد الحميد: لا أبداً ماني عاقل. أنا مجنون بالفعل! ومع هيك، إذا بتقبلوا ترشيحي ما بتخسروا شي. أصلاً اللي بيترشح مو شرط ينجح ويصير نائب.. إنتوا بدكم عشرين عضو، والمرشحين بيطلعوا تلات آلاف واحد، ولا تنسى إنه في هالبلد ما حدا بيصير عضو مجلس الشعب إذا ما دفع رشاوي.
صفر المحافظ وقال: كل هاي الأمور بتعرفها، وعامل حالك مجنون؟
عبد الحميد: أنا ماني عامل حالي مجنون، أنا مجنون بالفعل.
زاد استغراب المحافظ من هذا الكلام، وخرج من وراء مكتبه، ومشى باتجاه عبد الحميد، ووضع يده على كتفه وقال له: طيب، ما دام بتعرف إني حرامي، وبتعرف إنه النجاح بيتطلب من المرشح يدفع رشاوي. تفضل ادفع لي رشوة لشوف.
قالها وعاد للجلوس وراء مكتبه.
ابتسم عبد الحميد وقال: فكرت كتير بهالموضوع قبلما أجي لعندك، لكن صدقني يا سيادة المحافظ ما عندي شي أقدم لك إياه غير صرمايتي! الطقم والقميص والكرافة اللي أنا لابسهم كلهم استعارة. صرمايتي هيي الشي الوحيد اللي بملكه.
كان الجو في البهو الكبير الملاصق لمكتب المحافظ ساكناً. ثمة أناس ينتظرون دورهم لمقابلة المحافظ، مكاتب أبوابها مفتوحة، وفيها زوار من نوع خاص ينتظرون أن يدخلوا لزيارة المحافظ خارج الدور الاعتيادي، أو، كما يُقال من فوق الأساطيح... وحينما زعق المحافظ بعبارة: انقلع ولاه حيوان!
بدأ المشهد يضطرب، ويختلط، والرؤوس أخذت تشرئب، وشوهد عناصر من الأمن وحفظ النظام راكضين باتجاه الباب الذي فُتح في تلك اللحظة وخرج منه عبد الحميد، والمحافظ يدفعه في ظهره، وحينما رفع عبد الحميد رأسه رأى أحد عناصر حفظ النظام يلقم مسدسه فأيقن أنه سوف يُبطح أرضاً، ويتكاثر عليه العناصر ويعجقونه بالأرجل، فما كان منه إلا أن التفت، وبحركة خاطفة أمسك برقبة المحافظ القصيرة الملتصقة بكتفيه، وشد عليها، وصاح بالعناصر: ارجعوا لورا ولاك، قسماً بالله إذا حدا بيعمل أي حركة لحتى أطلع روحه. أنا قلت له إني مجنون وما صدقني، إنتوا كمان ما بتصدقوني؟
كان في المحافظة موظف قديم اسمه الحاج نادر عُرفت عنه الحكمة ورباطة الجأش، ولديه علاقات اجتماعية واسعة في المدينة والأرياف. تقدم من المكان بخطى واسعة، وقال للعناصر الذين لقموا مسدساتهم في تلك اللحظة: إذا سمحتوا. الكل يرجع لورا. يا ابني يا عبد الحميد اترك الأستاذ بحاله، وأنا بضمن لك تطلع من هون بسلام.
أحس عبد الحميد بنشوة النصر وقال وهو يدفع المحافظ بعيداً: بتركه وبطلع بس بشرط. أنا بدي أبقى مرشح لعضوية مجلس الشعب.
وتهدج صوته وقال (بالفصحى): هذا حقٌّ أعطانا إياه القائد التاريخي حافظ الأسد.. وما في أخو أخته بيحسن يحجبه عنا.
لم يسمع عبد الحميد رد الحاج نادر على جملته الأخيرة، إذ إن بعض الحاضرين تجاوبوا مع الموقف، وهتف أحدهم: بالروح بالدم نفديك يا حافظ.
وانطلق آخرون يرددون معه العبارة نفسها، بينما دخل المحافظ المهزوم إلى مكتبه وأغلق الباب.
وأما عبد الحميد فترك الجميع في حيص بيص وخرج بطريقة "واثق الخطوة يمشي ملكاً"!
(للقصة تتمة)..