02 سبتمبر 2024
سيرة النواعم والخشاين
في سهرة الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية.. عاد بنا الحديث إلى سيرة أبي نادر الرجل الظريف، الأنيق، الرقيق، المرتب، ذي العقلية الخاصة، الذي يكره الغليظين الحنافيش، ويسميهم "الخشاين".
قلت للحاضرين في السهرة:
قلت للحاضرين في السهرة:
- من خلالْ معرفتي المعمقة بشخصية أبو نادر اكتشفتْ إنُّه مو بس بينزعج من بعض الأشخاص الخشنين، متل أبو براطيم، و"أبو شروال الخَسّة"، كمان بينفر من ظواهر بيعتبرها سيئة، وبيتمنى لو أنها تزول من حياتنا، متل "الأعراس"! رحنا مرة بمشوار لمزرعة صديقنا الدكتور فهد، وطبعاً أبو نادر ما كان ممكن يرافقنا لولا أنّا حلفنا له يمين على إنه الأصدقاء الموجودين كلهم منقايين ع الصينية (يعني: تم انتقاؤهم بعناية من المثقفين الأذكياء الموهوبين الذين يروق لأبي نادر مجالستهم)، وإنه ما في احتمال واحد بالمليون إنه يمر واحد خشايني من هون، لأن المزرعة بعيدة عن المدينة، ومو موجودة على طريق عام..
من لحظة وصولنا للمزرعة بلشوا الشباب يشعلوا النار في المنقل، ويضموا أسياخ لحم الخروف منشان الشوي، وفي شباب تانيين صاروا يغسلوا الخضار ويفرموا السَلَطة.. أنا وأبو نادر ما كان مطلوب منا المساهمة في الشغل، لأن عدد الشغيلة وافر. أنا استغليت الفرصة وسألته:
- ليش إنته بتنزعج من الأعراس؟ خلي الناس تعبر عن فرحها بالعروس والعريس يا أبو نادر.
قال لي بأسلوبه التهكمي البارع: نعم أستاذ. الحق معك. لازم يفرحوا، ويدقوا عالطبل والزمر، ويدبكوا، ويقوصوا في الهوا. لأنه شوفة عينك، معظم العائلات في بلادنا ما بيخلفوا ولاد، والعائلة اللي بتخلف يا دوب تجيب ولد واحد، أو بنت وحدة، ومحافظة إدلب رغم اتساعها وضخامتها يا دوب كل شهر يصير فيها عرس. يا أخي مناسبة نادرة متل هاي بتستاهل الاحتفال!
قلت له: اسمح لي أختلف معك بهاي النقطة يا أبو نادر، يعني حتى لو كل عائلة خلفت عشر ولاد، ما بيمنع إنه لما بيتزوج واحد من هالولاد يفرحوا فيه أهله، والبنت المسكينة لما بتتزوج، عَ القليلة تفرح فيها أمها وعماتها وخالتها ورفقاتها.
قال لي: طبعاً لازم يفرحوا، ويعملوا عرس، وكل واحد من أصدقاء أبوه للعريس لازم يجيب هدية، وبالأخص الخواريف. شوف خاي، أنا هلق ما بروح على عرس لو بيشحطوني شحط، كل كم يوم بتجيني دعوة لحضور عرس، وأنا بتهرّب. بتعرف ليش؟ لأني في مرة من المرات رحت على عرس، وشفت شوفة لا يمكن الواحد ينساها. إنته بتعرف "أبو علاوي البَرمة"؟
قلت له: أي بعرفه.
قال لي: حضرته أبو علاوي ما بيجي ع العرس إذا ما عمل لنفسه جَوّ أبهة. بتلاقيه لابس هالشنتيان الأزرق والملتان الفضي، وحاطط على راسه كضاضة بيضا "ماركة زيت"، ورابط على كرشه شالة عجمية مطرزة، وشاكك الخنجر في الشالة من فوق، ومدخّل وردة جورية بين الكضاضة والعكال، وماشي وراه أولادُه الشباب اللي لابسين متل والدهم الخالق الناطق، وواحد من أولاده كان ساحب خاروف وماشي جنبه، ولما شافه الطبال والزمار لاقوا له بالطبل والزمر لمدخل الساحة، وهوي غمزه لإبنه بعينه، والإبن سَطّح الخاروف ع الأرض ونتر أبو علاوي السكينة وكَبَّر عليه، ودبحه، والدم صار ينشب لفوق، وهوي مسح السكين بمنديل قماشي متعود يحطه في جيبه، وبيصلح لكل الاستعمالات!.. وفي اللحظة اللي اندبح الخاروف المسكين أولاد أبو علاوي مدوا إيديهم لخصورهم، وسحبوا المسدسات ولقموها وطاق طاق طاق طاق.. وكأنه أبو علاوي بهالعمل البطولي حرر فلسطين! أنا يوميتها كنت لابس تياب نضيفة ومكوية، ولولا أني ابتعدت من قدام الموكب كانوا تيابي تعبوا دم.
قلت لأبو نادر: برأيك الشي اللي عمله أبو علاوي لا يعتبر تصرف فردي؟
قال أبو نادر: يا ريت لو كانت هاي الشغلة هيي الوحيدة المزعجة. لإنه بعد ما بتندبح الخواريف، وبتتركب الطناجر الكبيرة على النار، بيصير وقت الغدا، وبيبلشوا الحاضرين بضرب المعالق (الخواشيق)، وتمليص اللحم عن العضام، والفصفصة، والزلع والبلع وشَرْق اللبن، وهادا الأكل المليان لحم وشحم ودهن وسمن عربي وقلوبات مقلية بتعرف قديش فيه كوليسترول؟ وشقد بده وقت لحتى ينهضم؟
حينما وصلت بحديثي عن أبي نادر إلى هذه المنطقة تدخلت أم ماهر وقالت:
- هلق أبو نادر مثقف لدرجة إنه بيعرف الكوليسترول؟
قلت لها: بيعرف كل شي، مو بس بيخاف من الكوليسترول، كمان ما بيرضى إنه الناس ياكلوا أو يشربوا من وعاء واحد، أصلاً هوي إذا كان جوعان كتير ما بياكل غير كسرة خبزة مع قليل من الهبرة المسلوقة، يا إما بيحط فيها قطعة جبن.. المهم بقى منجي لوصف العرس المسائي، وهون أبو نادر بيبدع إبداع حقيقي. أول شي هوي معترض على الفصل بين الجنسين في الأعراس. قال لي إنه الرجل كيف بيرقص قدام ناس كلهم رجال؟ والبنت كيف بترقص قدام النسوان بس؟
قلت له: البنت بترقص حتى الأمهات اللي عندهم شباب يشوفوها ويعجبوا فيها وتجي وحدة منهن تخطبها لإبنها.
قال لي: هادا موضوع أنا ما بفهم فيه.. لأني ما بعرف أيش بيصير بأعراس النسوان، لكن العرس الرجالي أعجوبة حقيقية، بتلاقي الشباب كل خمسة أو ستة محتلين طاولة وعاملين شلة بيسموها "البوطة"، وصاحب العرس لازم يدعي كل بوطة لحالها عَ الدبكة، وكل بوطة أو بوطتين في إلهم زعيم أو قائد، وهالقائد لازم يكون واحد خشايني متل "أبو علاوي البَرمة"، ولما بيقوموا عَ الدبكة بيعزموه ليكون على راس الدبكة، وبيسموه راعي الأول، هون بقى أبو علاوي بيظهر كل الرُقِيّ تبعه، وبيبلش يدبك ويقمز ويوزع التحيات ع الشباب، ولما بيسلطن بيرفعوا هالمسدسات لفوق وبيباشروا قواس. بتعرف في آخر عرس حضرته أشو صار معنا؟
قلت له: أشو صار؟
قال لي: آخر طلقة طلعت من مسدس إبنه لأبو علاوي أصابت طرف السقف البيتوني، وقلعت كتلة من السقف، والكتلة نزلت على بعد نص متر عني.. لو انحرفت الكتلة باتجاهي نص متر كنت إنته هلق قاعد لحالك، يا إما عم تساعد الشباب بفرم السَلَطة!
من لحظة وصولنا للمزرعة بلشوا الشباب يشعلوا النار في المنقل، ويضموا أسياخ لحم الخروف منشان الشوي، وفي شباب تانيين صاروا يغسلوا الخضار ويفرموا السَلَطة.. أنا وأبو نادر ما كان مطلوب منا المساهمة في الشغل، لأن عدد الشغيلة وافر. أنا استغليت الفرصة وسألته:
- ليش إنته بتنزعج من الأعراس؟ خلي الناس تعبر عن فرحها بالعروس والعريس يا أبو نادر.
قال لي بأسلوبه التهكمي البارع: نعم أستاذ. الحق معك. لازم يفرحوا، ويدقوا عالطبل والزمر، ويدبكوا، ويقوصوا في الهوا. لأنه شوفة عينك، معظم العائلات في بلادنا ما بيخلفوا ولاد، والعائلة اللي بتخلف يا دوب تجيب ولد واحد، أو بنت وحدة، ومحافظة إدلب رغم اتساعها وضخامتها يا دوب كل شهر يصير فيها عرس. يا أخي مناسبة نادرة متل هاي بتستاهل الاحتفال!
قلت له: اسمح لي أختلف معك بهاي النقطة يا أبو نادر، يعني حتى لو كل عائلة خلفت عشر ولاد، ما بيمنع إنه لما بيتزوج واحد من هالولاد يفرحوا فيه أهله، والبنت المسكينة لما بتتزوج، عَ القليلة تفرح فيها أمها وعماتها وخالتها ورفقاتها.
قال لي: طبعاً لازم يفرحوا، ويعملوا عرس، وكل واحد من أصدقاء أبوه للعريس لازم يجيب هدية، وبالأخص الخواريف. شوف خاي، أنا هلق ما بروح على عرس لو بيشحطوني شحط، كل كم يوم بتجيني دعوة لحضور عرس، وأنا بتهرّب. بتعرف ليش؟ لأني في مرة من المرات رحت على عرس، وشفت شوفة لا يمكن الواحد ينساها. إنته بتعرف "أبو علاوي البَرمة"؟
قلت له: أي بعرفه.
قال لي: حضرته أبو علاوي ما بيجي ع العرس إذا ما عمل لنفسه جَوّ أبهة. بتلاقيه لابس هالشنتيان الأزرق والملتان الفضي، وحاطط على راسه كضاضة بيضا "ماركة زيت"، ورابط على كرشه شالة عجمية مطرزة، وشاكك الخنجر في الشالة من فوق، ومدخّل وردة جورية بين الكضاضة والعكال، وماشي وراه أولادُه الشباب اللي لابسين متل والدهم الخالق الناطق، وواحد من أولاده كان ساحب خاروف وماشي جنبه، ولما شافه الطبال والزمار لاقوا له بالطبل والزمر لمدخل الساحة، وهوي غمزه لإبنه بعينه، والإبن سَطّح الخاروف ع الأرض ونتر أبو علاوي السكينة وكَبَّر عليه، ودبحه، والدم صار ينشب لفوق، وهوي مسح السكين بمنديل قماشي متعود يحطه في جيبه، وبيصلح لكل الاستعمالات!.. وفي اللحظة اللي اندبح الخاروف المسكين أولاد أبو علاوي مدوا إيديهم لخصورهم، وسحبوا المسدسات ولقموها وطاق طاق طاق طاق.. وكأنه أبو علاوي بهالعمل البطولي حرر فلسطين! أنا يوميتها كنت لابس تياب نضيفة ومكوية، ولولا أني ابتعدت من قدام الموكب كانوا تيابي تعبوا دم.
قلت لأبو نادر: برأيك الشي اللي عمله أبو علاوي لا يعتبر تصرف فردي؟
قال أبو نادر: يا ريت لو كانت هاي الشغلة هيي الوحيدة المزعجة. لإنه بعد ما بتندبح الخواريف، وبتتركب الطناجر الكبيرة على النار، بيصير وقت الغدا، وبيبلشوا الحاضرين بضرب المعالق (الخواشيق)، وتمليص اللحم عن العضام، والفصفصة، والزلع والبلع وشَرْق اللبن، وهادا الأكل المليان لحم وشحم ودهن وسمن عربي وقلوبات مقلية بتعرف قديش فيه كوليسترول؟ وشقد بده وقت لحتى ينهضم؟
حينما وصلت بحديثي عن أبي نادر إلى هذه المنطقة تدخلت أم ماهر وقالت:
- هلق أبو نادر مثقف لدرجة إنه بيعرف الكوليسترول؟
قلت لها: بيعرف كل شي، مو بس بيخاف من الكوليسترول، كمان ما بيرضى إنه الناس ياكلوا أو يشربوا من وعاء واحد، أصلاً هوي إذا كان جوعان كتير ما بياكل غير كسرة خبزة مع قليل من الهبرة المسلوقة، يا إما بيحط فيها قطعة جبن.. المهم بقى منجي لوصف العرس المسائي، وهون أبو نادر بيبدع إبداع حقيقي. أول شي هوي معترض على الفصل بين الجنسين في الأعراس. قال لي إنه الرجل كيف بيرقص قدام ناس كلهم رجال؟ والبنت كيف بترقص قدام النسوان بس؟
قلت له: البنت بترقص حتى الأمهات اللي عندهم شباب يشوفوها ويعجبوا فيها وتجي وحدة منهن تخطبها لإبنها.
قال لي: هادا موضوع أنا ما بفهم فيه.. لأني ما بعرف أيش بيصير بأعراس النسوان، لكن العرس الرجالي أعجوبة حقيقية، بتلاقي الشباب كل خمسة أو ستة محتلين طاولة وعاملين شلة بيسموها "البوطة"، وصاحب العرس لازم يدعي كل بوطة لحالها عَ الدبكة، وكل بوطة أو بوطتين في إلهم زعيم أو قائد، وهالقائد لازم يكون واحد خشايني متل "أبو علاوي البَرمة"، ولما بيقوموا عَ الدبكة بيعزموه ليكون على راس الدبكة، وبيسموه راعي الأول، هون بقى أبو علاوي بيظهر كل الرُقِيّ تبعه، وبيبلش يدبك ويقمز ويوزع التحيات ع الشباب، ولما بيسلطن بيرفعوا هالمسدسات لفوق وبيباشروا قواس. بتعرف في آخر عرس حضرته أشو صار معنا؟
قلت له: أشو صار؟
قال لي: آخر طلقة طلعت من مسدس إبنه لأبو علاوي أصابت طرف السقف البيتوني، وقلعت كتلة من السقف، والكتلة نزلت على بعد نص متر عني.. لو انحرفت الكتلة باتجاهي نص متر كنت إنته هلق قاعد لحالك، يا إما عم تساعد الشباب بفرم السَلَطة!