سيرة عبد الله سيتامبوسيبل (2)
ما علينا. فِضِل معايا 140 جنيه، البيت.. اللي هي الأسرة، اللي همَّ الجماعة اللي بيصرفوا عليَّ بجد من الآخر.. لازم ياخدوا 50 جنيه عشان يبقى من حقي أكبَّر اللقمة وأقلل الغموس واتخانق على الصدر بدلا من الورك يوم الجمعة، والباقي لازم أعيش بيه وأحب وأتسلى وما اشربش مخدرات وما ابقاش متطرف وما انضمش لخلية نائمة.
في ذلك الصباح الباكر جاءني زميل عمل ليبخّ في أذني بُشرى إنشاء جمعية بـ 50 جنيه، سأقبضها بعد 10 شهور، الله.. بعد 10 شهور هاقبض 500 جنيه، 500 جنيه، مبلغ يسيل له اللعاب. صحيح أنه لو جاءني لما عرفت ماذا أفعل به ولما استنفعت به بنكلة، لكن المهم أنني سأجد فرصة لكي أحقق حلمًا قديمًا لي بأن أكون رجلًا يدخل جمعيات، وحتى كنت باحلم إن يتنصب عليَّ فأمسك بتلابيب صاحب الجمعية وأفعل به الحاجات الوحشة التي كنت أرى جدتي ـ بلَّ الله تربتها ـ وخالي يفعلون ذلك ذات مرة عندما اتنصب عليهما مرة وأنا صغير.
طوال أشهر اشتراكي في الجمعية ومع اقتراب موعد قبضي تداهمني خيالات النصب عليَّ فأبدأ بالإعداد لشراء مطواة، وبعد انتشار عربيات الأتاري وقانون البلطجة صرفت نظر وقررت أستخدم سكينة المطبخ عند اللزوم.
تخيلوا كل هذه الشهور وأنا أقبض مرتبي: 50 للبيت و50 جمعية و10 جنيه عنطزة أول الشهر، يبقى 40 جنيه، وإذا كانوا يقولون اعقلها وتوكل، فعايز أشوف شيخ العقلاء اللي يتوكل لمدة شهر بـ 40 جنيه، عارفين يعني إيه؟ يعني يصرف جنيه وشلن لمدة 20 يوم وبعدين جنيه واحد لمدة عشرة أيام، طب ازاي وأنا أجتمع مع زملائي في الصباح كل يوم لنفطر جمعاء مقابل أن يدفع كل منا لزوم الإفطار 50 قرش، وهو ما كان يضطرني للبحث عن زملاء يؤمنون بنظرية المنح اليابانية التي لا ترد ولا يؤمنون بالمدرسة الإنجليزي بنت الكلب، أحيانا أدعي الصيام للهرب من الاشتراك في الدفع، في إحدي عشرينيات الشهر ذات مرة سرقت شوية شرايط إنجليزي تملكها أختي وبِعتهم وفطِرت بثمنهم كذا يوم.
هل زهّقتك بالكلام عن الفلوس؟ عايزني أكلمك شوية عن الحب.. طيب تعال أكلمك عن الحب شوية. وأحكي لك قصة البنت المعفنة اللي كانت الحاجة الوحيدة اللي عرفت أعلقها في حياتي، حتى هدومي ما باعلقهاش عشان ما فيش مكان ليها في الشقة، باكوِّمها في كرتونة فوق الدولاب. بُصّ يا سيدي، لازم أقولّك الأول أنا علّقتها منين.. علّقتها في السينما، وأول حاجة لفتت انتباهي ليها، إنها كانت أول بنت في حياتي أشوفها بتاكل فشار، ففي عُرفنا في المنطقة البنت اللي تاكل فشار بره البيت ومش قدام محرم تبقى مش تمام.
قد يبدو شكلي عبيطًا عندما أقول لك إنني وقعت في غرام الحتة بتاعتي لأني رأيتها تاكل الفشار داخل السينما، أعذرك لأنك لن تفهم أبدًا نفسيتي التي زقّتني نحو غرام كهذا، فالفشار في سينما مودرن شبرا التي دخلتها كان وقتها بجنيه ـ كان هذا الكلام قبل تسع سنين أيام كان الجنيه يجيب طبق كشري بكمالته، وأربع «شندوتشات» مِشكّلين بمنافعهم ـ وأن تشاهد كموظف فقير بنتًا لم يأكلها القَطر، كأغلب بنات منطقتك تقف شامخة في السينما
وتاكل فشار بجنيه، فذلك معناه أنها أغنى منك، ناهيك عن كونها أيضًا أجمل منك، وقبل أن تستغرب الجملة دعني أقل لك إنني للأسف أجمل من جميع بنات حتتي مع مراعاة أنني نسخة رفيعة قوي من الممثل الجميل المليان غريب محمود.
المهم أن أمر الله نفذ وسهم الغرام رشق مع رشقها لحبات الفشار في بلعومها، الله حلوة الجملة دي، اقتربت منها واتخذت وضع الفتنة، ابتسمت لها، نظرت لي باحتقار، نزل عليَّ برود كل الحلاقين دفعة واحدة، وقعدت أضحك لها وأنا متنح لها. كان معي في جيبي 20 جنيهًا وكنت لابس هدوم جديدة جبت تمنها من أختي اللي استلفت منها 150جنيه على حس الجمعية اللي هاقبضها بعد 8 شهور. المهم اشتريت علبة سجائر قد تبدو من النوع الرديء بالنسبة لبعضكم لكنها بوكس وما أدراكم ما البوكس بالنسبة لنا نحن صغار الموظفين، إنه أمر لو تعلمون عظيم، أخذت أدخن وأنا أذهب وأجيء أمامها متمخطرًا بهدومي ذات الخامات المعفنة والتي قضيت أسبوعًا كاملًا بها لأني أعلم أنها ستبوظ مع أول غسلة (بالمناسبة أصبحت الآن حتت مطبخ أو شراميط كما تُدعي في الأرياف الحبيبة). المهم ثبت أن قراري بالتناحة كان استراتيجيًّا، فقد جابت التناحة مفعولها وقدرنا نعلق البنت، واستمر التعليق بيننا حتى هذا اليوم التاريخي الذي أدلي فيه بشهادتي، صحيح أنني في أحيان كثيرة أبتعد عنها بحجة أنني لا أريد أن أشغلها عن المذاكرة، والحقيقة أنني أهرب من هدايا عيد الأم وأعياد الميلاد وأعياد الحب وأول الدراسة وأجازة نص السنة ورأس السنة وطي.. السنة.
مع الوقت تحول التعليق إلى علاقة حب مع أني لا أمل لي في الزواج، عندما حاصرتني عاطفيًّا، وطلبت مني أن أعدها بإصلاح غلطتي، لكي تغلط معي وهي مطمئنة، صارحتها بحقيقة كوني موظفًا حقيرًا، فوجئت أنها فرحت ليتضح أنها من أسرة أفقر من أسرتنا، برغم الفشار الذي كان نزوة كما ادّعت، أو ربما كان طعمًا لاصطياد المغفلين من أمثالي. عدت إلى البيت يومها دائخًا بعد أن طارت أحلام الغلط اللذيذ، قلت لنفسي: «إذن إتلم تن تن على تن تن»، بدأت الذكريات «تتداعس في مخيلتي» لأكتشف كم كانت حبيبتي آكلة الفشار واطية وكم كنت أبله، تذكرت أول يوم خرجت فيه معها بعد طول تمنع منها، يومها عزمتها على شاي في كافيتريا ألاجه بوسط البلد، ولأنها كانت واطية للأسف، فقد أصرت على أكل سندوتشين شاورمة لحمة، إلهي تطفحهم يا رب، وطبعًا الميزانية خرمت نتيجة لذلك، وكان شهرًا خرائي النزعة. تكرر هذا خلال الشهرين التاليين وعندها سعيت لتطوير «العلاكة» لتحليل ثمن الشاورمة، وحاولت أبوسها ذات بير سلم لكنها رفضت بإلحاح مع أني كنت صارف عليها ربع المرتب، قال إيه عايزة الحلال، يعني هو أنا كنت غاوي الحرام؟ عدت إلى بيتي مخذولًا مقموعًا، أسأل نفسي طيب والحل؟ قلت لنفسي بعد كذا شهر هاقبض الجمعية وأجيب دبلتين من أم تسعين جنيه، وبعد كده أبيع دبلتي وأجيب واحدة شبهها من أم تلاتة جنيه وبعد كده كله يبقى بالحلال.
بعد طول تفكير قلت لنفسي: العمل الإضافي هو الحل، طب إزاي والمقاهي مليئة بشباب من كل صنف لا يجد شغلًا ولا مشغلة؟ مش مهم إن نابليون رئيس المواطنة الفرنسية إياها بيقول إن المستحيل اللي هو السيتا مبوسيبل كلمة لا توجد إلا في قاموس الضعفاء، طب ما أنا من الضعفاء والضعفاء أنا، جميع الأبواب مغلقة وأنا من الفَلَس في غاية، حتى الصراف بابه مغلق اليوم، مافيش سلف والغدة ناقحة عليَّ، كل اللي أملكه دلوقتي شوية كتب خدتهم من المدعوق بلال فضل، ورباعية حافظها لصلاح جاهين، الله يخرب بيت بلال اللي جرِّني لسكته: «يا باب أيا مقفول إمتى الدخول.. صبرت ياما واللي يصبر ينول.. دقيت سنين والرد يرجع لي مين.. لو كنت عارف مين أنا.. كنت أقول». قعدت جنب شريط السكة الحديد حيث أعمل، أتأمل شريط حياتي المليئة بالهم في ضوء
هذه الرباعية، لو قابلتني طنط آمال فهمي دلوقتي حاهدي الرباعية دي لكل السكان الأصليين لمصر، زي ما بيسميهم الواد بلال، وبعدين أعيّط في حضنها، وطبعًا هتطلب لي البوليس وهاروح في داهية بتهمة فعل فاضح على الناصية.
لا كده مش نافع، لا بد أن أفرغ الآن شحنات الغضب والضيق اللي جوايا، إزاي؟ الحل في المخدرات والسهرات الحمراء، بس أجيب فلوسها منين؟ استلفت عشرة جنيه وذهبت إلى مقهى كنت أجلس عليه أيام الجِهاديّة، من 12 مساءً إلى 6 صباحًا كل سبت، كانت تعرض برامج القنوات المتخصصة في السكس، هدأني اللحم الأحمر المستورد كثيرًا، مع أنه كان المفروض ألا يهدئني، لم يخرجني من أحلامي إلا صوت الجرسون يذكرني بالمشروب بتاع كل ساعة، على آخر السهرة طارت العشرة جنيه وطار عقلي. قبل أن أقوم ومع أذان الفجر أغمضت عيني لأختزل كل منظر وحركة رأيتها حتى أستطيع استرجاعها وأنا في الخلاء لأقذف بصحتي وأحلامي في البالوعة.
...
نكمل غداً بإذن الله