شمس بدران الرجل الغامض بسلامته (3 من 3)
يؤكد شمس بدران في مذكراته شهادات سابقة لعدد من رموز المرحلة الناصرية، قالوا فيها إن أنور السادات كان وراء توريط عبد الناصر في قرار حرب اليمن، حتى أن بعضهم تمادى في تفسير دوافع السادات وربطه بعلاقات أجنبية معه لا يوجد عليها دليل موثّق، لكن شمس بدران قرر إضافة لمسة خاصة، حين قال إن السادات كان على "علاقة" بزوجة شخصية سياسية يمنية مرموقة ـ اختار كاتب المذكرات حمدي الحسيني وضع كلمة علاقة بين قوسين ـ وبسب تلك العلاقة التي يصفها في موضع آخر بأنها "حميمية" جاءت فكرة إرسال فرقة عسكرية مصرية إلى اليمن لمساندة ثواره المتأثرين بالثورة المصرية، مؤكداً أن عبد الناصر عرف بسر تلك العلاقة من تقرير مخابراتي ولكن بعد فوات الأوان.
يقول شمس بدران بالنص: "أذكر أن الرئيس عبد الناصر عندما اعترف لي بعلاقة السادات بتوريط مصر في أوحال اليمن رواها لي بشيء من المرارة والأسى المخلوط بالسخرية، حيث قال إن السادات استمتع بامرأة يمنية فكلف الخزانة ملايين الدولارات، وفقدنا آلاف الشهداء في جبال اليمن، ثم تحدث بطريقة شعبية لا تخلو من الوضوح حول تلك العلاقة بما يوحي بمدى ثقته في المعلومات التي يستند إليها في اتهام السادات".
ولكي يفسر التناقض الذي جعل عبد الناصر يتمسك بوجود السادات إلى جواره بعد ما عرفه عنه، بل ويقوم بتعيينه نائباً له، يقول شمس بدران إن عبد الناصر رحب بفكرة السادات بالتدخل العسكري في اليمن لكي يغطي على فض الوحدة مع سوريا ولكي يسهم في كسر حالة الحصار الاقتصادي التي تعرضت لها مصر ولكي يدعم فكرة القومية العربية ويعمق زعامته لدى العرب، لكنه لم يتخيل أن السرية الرمزية المكونة من 200 جندي ستصل في يوم ما إلى نحو 60 ألف جندي متورطين في حرب عصابات استغلها أعداء عبد الناصر لاستنزاف قوى الجيش المصري، ويروي شمس بدران أنه حاول في هذه الفترة إقناع عبد الناصر بفتح الباب أمام الاستثمارات الأمريكية لتخفيف ضغطهم عليه في اليمن، وكان ذلك سيتم عبر صديق له تربطه علاقة قوية بأصحاب شركات أمريكية كبرى، وقام بترتيب زيارة لهم إلى القاهرة كادت تنجح في فتح أبواب الاستثمار لهم، لولا انزعاج الاتحاد السوفيتي من الخطوة وضغطه على عبد الناصر لإجهاضها.
في موضع آخر من مذكراته لا يبتعد شمس بدران كثيراً عن ملف العلاقات الحميمة، حيث يحكي لحمدي الحسيني عن تفاصيل العلاقة العاطفية التي جمعت بين عضو مجلس قيادة الثورة صلاح سالم والأميرة فايزة شقيقة الملك فاروق وثاني بنات الملك فؤاد، قائلاً إن عبد الناصر كان يشجع صلاح على الاستمرار في هذه العلاقة لدرجة أنه منحه سيارته الـ "أوستين" الخاصة ليذهب بها للقاء الأميرة، بعد أن رصد جهاز المخابرات أن بعض المواطنين لاحظوا ذهاب صلاح سالم بسيارة جيب عسكرية للقاء شقيقة الملك في إحدى الفيلات بالهرم، ويقول إن عبد الناصر كان يظل مستيقظاً حتى منتصف الليل منتظراً عودة صلاح سالم من لقائه بالأميرة ليحكي له تفاصيل ما جرى.
يقول شمس بدران إن العلاقة بدأت حين تلقى صلاح سالم شكوى من الأميرة ضد ضابط ذهب في مأمورية لتفتيش بيتها، فظل يقلّب في ملابسها الداخلية بطريقة مهينة، وحين تحقق صلاح سالم من صدق الواقعة، وقّع عقوبة على الضابط، فطلبت الأميرة زيارته لتقديم الشكر، وحدث الإعجاب الذي تابعه عبد الناصر ورعاه، إلى أن انقلب على صلاح سالم حين عارض بعض قرارات عبد الناصر الاقتصادية وهدد بإصدار كتاب أسود ضده على غرار الكتاب الأسود الذي أصدره مكرم عبيد عن مصطفى النحاس، وكان قد وصله تقرير من صحفي رافق صلاح سالم خلال زيارته للسودان يرصد بعض انتقاداته لعبد الناصر، كما بلغه أن صلاح سالم يتحدث مع زواره عن مساوئ عبد الناصر وينقد قراراته بشكل لاذع، فقرر عبد الناصر مقاطعته وعدم الرد على اتصالاته، حتى بعد أن أراد صلاح المشهور بانفعاله أن يعتذر، وحين أصيب صلاح سالم بمرض حاد في الكلى وانعزل في بيته استمر عبد الناصر في مجافاته، ولم يستجب لرسائل صلاح سالم وشكاويه التي وردته عن طريق الليثي وعز العرب شقيقي عبد الناصر، وقرر عبد الناصر على حد ما قاله شمس بدران أن يستغل علاقة صلاح وفايزة في التشهير بصلاح سالم وتشويه سمعته وإبعاده من الحياة السياسية.
في عام 2010، كان اسم شمس بدران قد عاد للظهور بعد طول اختفاء، حين نشرت أخبار عن قيام وكالة الأهرام للصحافة بتسجيل مذكراته في ما يزيد على عشرين ساعة تلفزيونية وأنه حصل مقابل ذلك على مبلغ يتجاوز المائة ألف دولار أمريكي، وكتب المذيع اللامع يسري فودة مقالاً يشير فيه إلى أهمية السبق الإعلامي متسائلاً عن المعايير التي تم اتباعها في تسجيل المذكرات، وما إذا كان قد تم تدقيق ما قاله لكي لا يسمح له بتصفية حساباته مع خصومه السياسيين، واتضح بعدها أن وكالة الأهرام كانت قد عرضت على يسري فودة أن يقوم بتسجيل المذكرات لكنها لم توافق على شروطه التي كانت تتطلب وجود فريق من الباحثين يقوم بتدقيق ما سيقوله شمس بدران ليتم مواجهته بما يقوله مخالفون له في الرأي من شهود نفس المرحلة.
كان اسم شمس بدران قد عاد للظهور بعد طول اختفاء، حين نشرت أخبار عن قيام وكالة الأهرام للصحافة بتسجيل مذكراته في ما يزيد على عشرين ساعة تلفزيونية وأنه حصل مقابل ذلك على مبلغ يتجاوز المائة ألف دولار أمريكي، وكتب المذيع اللامع يسري فودة مقالاً يشير فيه إلى أهمية السبق الإعلامي متسائلاً عن المعايير التي تم اتباعها في تسجيل المذكرات
بعدها تم نشر مقتطفات من المذكرات المسجلة في صحيفة كويتية، فأثارت جدلاً واسعاً حين اتضح أن بها حديث لشمس عن الحياة الجنسية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكالعادة كان الجدل المثار حول ما نشر في الصحيفة أكثر انتشاراً مما نشرته الصحيفة نفسها، مما سمح للكثير من مواقع الإنترنت أن تضيف إليه وتحذف منه، وشنّت صحيفة (العربي) الناصرية هجوماً حاداً على قناة (أون تي في) وصاحبها رجل الأعمال نجيب ساويرس حين نشرت أخبار تفيد إنه قرر شراء وإذاعة تسجيلات شمس بدران، لكن ساويرس نفى قيامه بذلك وقال إنه لن يسمح بنشر أي شيء يمس عرض وسمعة عبد الناصر.
وكما تم الإعلان عن المذكرات المسجلة فجأة، تم اختفاؤها فجأة، ونشرت بعض الصحف أن أجهزة سيادية ـ اسم الدلع المعتمد في الإعلام المصري للمخابرات العامة والمخابرات الحربية ـ تدخلت لمنع نشر وإذاعة المذكرات بأي صورة مرئية أو مكتوبة، وحين قامت ثورة يناير 2011، عاد الحديث عن تلك المذكرات في عامي 2011 و2012، وقيل إنها ستنشر استغلالاً لمناخ الحرية غير المسبوق الذي أعقب الثورة، لكنها لم تنشر، بل نشرت عدة مواقع أخباراً تقول إن شمس بدران نفى علاقته بتلك المذكرات، وتم غلق ملف تلك التسجيلات.
اتضح أن نفي شمس بدران للمذكرات لم يكن صحيحاً، بل كان وراءه رغبة في غلق ملفها، حين نشر حمدي الحسيني في عام 2014 كتابه (مذكرات شمس بدران) والذي صدر في حياة شمس بدران واحتوى على عدة صور للمؤلف معه خلال زيارته له في بريطانيا، وتأكد أن شمس بدران قام بالتسجيل فعلاً مع من وصفها بإحدى المؤسسات الصحفية القومية، وأنه فعلاً تحدث عن الحياة الجنسية لعبد الناصر، وأنه لم يتراجع عما قاله بل قال بالنص: "توقفت أمام زوبعة بالصحف المصرية تحدثت عن أنني فضحت الحياة الجنسية للراحل عبد الناصر، بينما القصة الحقيقية أنني لم أتطرق لتفاصيل مسيئة، فكل ما ذكرته كان يتعلق بعلاقة صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات بالرئيس عبد الناصر، فقد لاحظ صلاح أن زيادة نسبة السكر التي كانت تشكل أزمة صحية دائمة لعبد الناصر خلال سنواته الأخيرة، كان لها تأثير مباشر على حياته الجنسية مثل أي مريض سكر، فكان دور صلاح نصر هو تزويد الرئيس بمشاهد جنسية مثيرة سبق أن سجلها الجهاز للفنانة سعاد حسني وغيرها من الفنانات الشهيرات في ذلك الوقت، ويبدو أن تلك المشاهد الساخنة كانت تساعد عبد الناصر في التغلب على تأثيرات مرض السكر".
ثم يضيف شمس بدران قائلاً فيما يشبه التوضيح الراغب في لمّ المسألة: "لم أقصد الإساءة إلى شخص عبد الناصر ولا إلى غيره، بل كنت أعلق على سؤال حول مدى استقامة الرئيس، وهل كان له علاقات جنسية غير شرعية؟ بالطبع الذين ثاروا على هذا التعليق واعتبروني أتناول حياة عبد الناصر الجنسية أقول لهم: لماذا لم تغضبوا ممن تناولوا حياة المشير عامر الخاصة بسبب زواجه من الفنانة برلنتي عبد الحميد، رغم أنها كانت زوجته على سنة الله ورسوله، بل وأنجب منها طفلاً منسوباً إليه. كما أذكرهم باختلاق القصص الوهمية عن علاقة المشير بالمطربة وردة الجزائرية وغيرها من الحكايات التي لا تمت للواقع بأي صلة. لكن على كل حال كان عبد الناصر أكثر الناس التزاماً من الناحية الأخلاقية، فلم يكن يمتلك الوقت ولم تتح له ظروفه أن ينجرف إلى مثل هذه الجوانب".
المثير للاهتمام فيما نشره شمس بدران في مذكراته، هو إصراره على الخوض في الحياة الخاصة لعبد الناصر، وهو يعلم أن أسرة عبد الناصر يمكن لها أن تقاضيه أمام المحاكم البريطانية وتتهمه بتشويه سمعة عبد الناصر؟ ولا أظن أن هذه النقطة كانت غائبة عن تفكيره وهو يحاول بشكل ما أن يثأر لصديقه ورئيسه عبد الحكيم الذي راح ضحية تصديقه لأن عبد الناصر لن يفتك به. لا أدري، لعل شمس بدران تصور أنه مسنود قانونياً في هذه النقطة بما لديه من وثائق أو تسجيلات نجح في الحفاظ عليها ولم يفرط فيها مثلما فعل بتسجيلات عبد الوهاب، وربما كان من بين تلك الوثائق ورقة شاهدتها بنفسي حين قمت بالتسجيل مع الناشر محمد الصباغ والذي كان صاحب الدور الأكبر في إنجاز مشروع تسجيلات شمس بدران، وسبق له من قبل أن نشر جزءاً كبيراً من مذكرات صلاح نصر، وقيل إن هناك أجزاء قادمة في الطريق من تلك المذكرات لكنها لم تُنشر.
كنت قد سجلت مع الأستاذ محمد الصباغ حلقة في برنامج (عصير الكتب) حين كنت أقدمه على قناة دريم قبل عشر سنوات، وبعد أن انتهى الحوار المسجل الذي أذيع في البرنامج والذي سألته فيه عن عدد من كتب المذكرات السياسية المهمة التي أصدرها كناشر، حدثني عن كثير من الوثائق والأوراق التي يحتفظ بها من خلال علاقاته بعائلات عدد من كبار الشخصيات السياسية في مصر، ومن بينها ورقة مكتوبة بخط يد عبد الحكيم عامر، كتبها قبل وقت قصير من رحيله أو مصرعه، وكان يفترض أن تصل إلى عبد الناصر لتهديده وإخباره أن عبد الحكيم عامر لن يستسلم له، وقد ورد في تلك الرسالة نص الكلام الذي قاله شمس بدران عن تسجيلات سعاد حسني مصحوباً بقدر كبير من الشتائم التي تطعن في رجولة عبد الناصر، وقد شاهدت صورة من تلك الرسالة بنفسي، وكان واضحاً فيها أن عبد الحكيم عامر كان في حالة عصبية مرتبكة لدرجة أنه كان يكتب على حوافّ الورقة وهوامشها، ولذلك قرر بمنطق طفولي أن يعاير صديقه بما يتصور أنه عيب، مع أن المرض ليس عيباً ولا عاراً، وإذا كان هناك من يجب أن يخجل من فعل مثل مشاهدة تسجيلات خاصة، فلا يجب أن يكون عبد الناصر فقط، بل وصلاح نصر وعبد الحكيم عامر أيضاً لأنهما ترديا إلى هذا المستوى من استباحة الحياة الخاصة واللعب بحياة ومصائر الناس.
مع الأسف، حين نشرت مذكرات شمس بدران في البدء كحلقات مقتطفة من المذكرات الأصلية، ثم حين نُشرت كاملة في كتاب، تم استخدام ما رواه للتنابز السياسي على صفحات الإنترنت، والتشليق المتبادل بين أنصار عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات، ولم يتوقف الكثيرون عما هو أخطر من التفاصيل التي رواها شمس بدران، ورحل دون أن تتم محاسبته عليها، وهو الطريقة التي كانت تحكم بها مصر، والتي جعلت شخصاً بهذه العقلية الوضيعة، يصل إلى منصب وزير الحربية في فترة شديدة الخطورة، ثم نجد بعدها من يستغرب لماذا وقعت هزيمة يونيو 1967 أو يقلل من خطورتها، أو ينسى ما هو أهم وأخطر، وهو أن مصر لا زالت تُحكم بنفس الطريقة، ولا زالت تسلم أرفع مناصبها لأهل الثقة والولاء ولو كانوا عديمي الكفاءة والذمة.