شهيد بانتظار الشهيد (1 من 2)
عقارب ساعات لعينة لم يحلُ لها الدوران إلّا بدائرة دماء الأبرار، وهي تطوف عكس عقاربها في وطنها، وكأنّها أبرمت اتفاقاً مع الدماء، متتبعةً اتجاه طهرها وهي تسيل لتُخلّص الأرض ودوران أيامها دقائقها وثوانيها، من رجس عدو وضيع فَجر بجرائمه، فالدماء تمضي لتسكب طهارتها بالتوقيت المحدّد مسبقاً ضمن الاتفاق المذكور، لتلحق شوقاً لعناق دماء أبرار سبقوها، وتودُّ لو تعود لتلحق مرّة أخرى بمن أقسموا على تسديد ثأرها بالدماء أيضاً، بساعات أيامٍ لا عنوان لها سوى الدماء والدماء. واعذروني على تكرار مفردة الدماء، لكنني واللّه لا أبصرُ في تلك الليالي الكالحة سواها، ولا حلم أتوق إليه، سوى الالتحاق ذات ليلة بركب هذا الشرف الجليل.
الشرف الذي تضفي عليه الدماء المعنى الأعظم، والبهاء، وهي تتمدّد ببلادها، في ساعات كفيلة بقتل الروح التي أنهكها شعور العجز أمام الدماء التي تسيل منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، كما الساعات الأخيرة حين استهلتها نابلس ومن ثم مرّت بالخليل حتى أخذت تمتدُ إلى القدس قبل أن تصل إلى جنين وتعود مرة أخرى إلى الخليل وبيت لحم.
وإليكم تفاصيل تلك الساعات التي تكلّلت بدماءٍ، شرع الجريح الشهيد أحمد أبو جنيد بنزفها فجر يوم 11 يناير/ كانون الأول، وهو يطهّر مخيم بلاطة في نابلس من رجس عدو وضيع سوّلت له نفسه اقتحام جبل النار، فهبّ أحمد ورفاقه يطلقون نيرانهم لصدّه عن تدنيس أرضهم.
وبما أنّ المعركة غير متكافئة تاريخياً في فلسطين، والقاتل يتوحش في جرائمه، إذ إنّه لا يعرف غير لغة القتل، فأقدم على قتل أحمد، لكن رصاصه الجبان لم يتمكن منه، فعاد ليستيقظ بعد ارتقائه شهيداً، ليطمئن إلى أنّ يد المحتل الخسيس لم تطاول المخيم وجبل النار، وهنا زأر الأسود من عرينهم ليُكذبوا مزاعم المحتل، فاطمأن وعاد إلى سباته داعياً ربه ما اعتاد ترديده دوماً "مجرد حياة ولن تدوم، اللّهم حسن البقاء، وحسن الرحيل"، وأخذ يفكر في ما كان يسعى إليه، ألا وهو إكمال دراسته للصحافة التي أرادها ليوصل صوت بلاده إلى العالم.
لكنه بات على يقين بأنّ العالم كفيف، وإن أبصر، وأنّ أسمى كلمة اليوم تكمن في رشقات الرصاص التي صوّبها نحو المحتل الإسرائيلي. وفيما كان يغرق في التفكير، أبصر رفيقيه الشهيدين المقاومين، عامر أبو زيتون ومهدي حشاش، وهما يمدّان أيديهما إليه، فتشبّث بهما وقرّر الصعود إلى السماء برفقتهما، فقد غلب شوقه لهما شوقه إلى الزقاق في جبل النار حيث كان يستذكرهما كلّما مرّ به، ولم تكن قد مضت أيام عليه وهو يرثيهما، وكأنه يعلم أنه سيكون بمعيتهما عقب ساعات كانت بالغة الصعوبة على والدته وهي ترجو اللّه أن يمنحها الصبر على رحيل مهجة قلبها، لتتوقف ثانية تنظر إليه وتقول: "هو بده يستشهد ونالها، يا حبيبي بدهم يزفوك هسا عريس"، ومن ثم أخذت تحتضن جسده وروحه ترافقها، وهي حاملة نعشه على كتفيها، وتردّد مصبّرة قلبها: "يا أم الشهيد وزغردتي كلّ الشباب أولادكِ"، وحقاً كل شباب البلد باتوا أولاداً لها، وما أجملهم من أبناء رجال يلتفون حولها ويحتضنون النعش برفقتها برصاصات مقاومتهم.
بينما كان الإضراب العام والحداد يعم جبل النار ومخيم بلاطة والظاهرية حزناً على رحيل الشهيدين أحمد وسند، كان المحتل يشن عدواناً على مخيم قلنديا شمالي القدس المحتلة
وفي أعقاب ذلك، كان المقاوم، سند سمامرة، يتتبع الأحداث، ويراقب تحركات جنود العدو كعادته، فرؤوسهم هدفه، وبقتلهم يسمو، ويقترب إلى حلمه الذي كتب عنه ذات يوم فوق السلاح: "يقولون إنّ حلمي مستحيل، وأنا أقول إن ربي على كل شيء قدير".
وهنا كان يؤشر "سند" على ما يصبو إليه، وبينما كان يقف كالسد المنيع يحرس أرضه المهدّدة بالمصادرة من قبل الاحتلال في الخليل حيث بلدة الظاهرية التي تدنسها مغتصبات بني صهيون، سمع ثمّة أصوات تدوي من جبل النار، وكأنها تُناديه، فلبّى النداء وصدق حين قال إنّ "حلمه غير مستحيل"، ليترجّل صوب جنوب الخليل نحو مغتصبة "حفات يهودا" ويطعن بسكينه الطاهر عدواً صهيونياً، ليُسدّد السند طعناته بجسد الوضيع، وكأنّ "سند" يصدح "الخليل سند لجبال النار" التي عشق مقاوميها مثل الشهيد المقاوم، إبراهيم النابلسي، الذي كان يستند "السند" في مقاومته إلى وصيته حتى نال ما أرد.
وبينما كان الإضراب العام والحداد يعمّان جبل النار ومخيم بلاطة والظاهرية حزناً على رحيل الشهيدين أحمد وسند، كان المحتل يشنّ عدواناً على مخيم قلنديا شمال القدس المحتلة، وكالمعتاد يعتقل أحرار البلاد، حتى وصل "رمزي" وانفلت عليه الجند كما الكلاب الضالة؛ ليتدخل أبوه سمير على الفور، ليفلته من بين أيدي الأنجاس الذين صوّبوا أسلحتهم نحو صدر سمير أصلان، ليغرق بدمه ويحاصره جنود المحتل وهم يعتقلون ابنه وهو يلفظ آخر أنفاسه، قائلاً: "مهونة يا رمزي"، وارتقى الأب شهيداً، واعتقل العدو ابنه وجثمانه.
وبعد ساعات اشتعلت الأحداث في جنين الثوار، حيث اقتحم المحتل جنوبها، تحديداً قباطية، لتندلع مواجهات غير متكافئة القوة كما جرت العادة بين آلة حرب عسكرية ومقاومين شجعان في البلاد، أصيب على إثرها حبيب كميل وعبد الهادي نزال، ليرتقي حبيب شهيداً بعد عودته بساعات أيضاً إلى قباطية من رحلة عمل جلب بها ثياباً لمتجره الذي أمسى تذكاراً من رائحة الحبيب الذي هامت روحه بحبّ الوطن، وصمدت حتى ارتقت بين أزقته حيث كان رفيق حبيب الذي أحبّ وسبقه إلى الشهادة، المقاوم، طاهر زكارنة، بانتظاره ليصحبه برفقته إلى العلا، وبينما كانا يصعدان توقف "طاهر"، قائلاً لحبيب: "انتظر.. اشتقنا في الجنان إلى عبد الهادي". وفعلاً، حين أظلم الليل، كان نور عبد الهادي، وهو يزفّ قمراً يضيء بالحب سماء المقاومين، وبالنار واللهب ثكنات المحتل الصهيوني وأعوانه، الذي لطالما قاومهم خلف قضبان الأسر، وباشتباكه معهم فجراً وظهراً وعصراً وليلاً، وهو يصون ثرى الوطن من جنود العدو، وما إن سمع تسللهم إلى قباطية حتى ترجّل لإطلاق رشقات من رصاصه العفيف في عمق أجسادهم، وظلّ حتى لحظة استشهاده مشتبكاً، ولم تفارقه بارودته، ليربح البيع كما قالت شقيقته التي كانت تصبّر أمه على فراقه، وهي تذرف دمعها، اعتزازاً وحزناً، على رحيل ابنها وتردّد آخر كلماته: "قللي يمّا ربنا بده إياني شهيد وأنتِ بدك إياني على مين أرد، يمّا أنا بدي استشهد واشتقت لطاهر ومحمود وكل أصحابي".
وبتلك الكلمات وددتُ لو أختم تدوينتي قبل أن نُفجع بساعات اعتدنا على قسوتها وهي تخطف أسوداً عشقوا الأرض، وبدم لم يرتضِ هدنة مع موت، لم ولن يتعدى حيّز مكاني.
يتبع في الجزء الثاني...