شيوعي على خط عمان دمشق
في بداية سهرة "الإمتاع والمؤانسة" ليلة البارحة، أحببت أن أذكّر الحاضرين بطبيعة سهرتنا، وهي أننا عندما نحكي عن الآخرين فإنّما نفعل ذلك دون ضغينة أو كراهية، فنحن، أساساً شريحة عشوائية من الشعب السوري المطرود من أرضه، التقينا مصادفةً في إسطنبول، يوجد بيننا المثقف، والفلاح، والعامل، والعاطل عن العمل (مثل حبيبنا أبو الجود)، لا يجمعنا اتجاه فكري معين، ولكن ما نتفق عليه بالإجماع هو أننا نكره الاستبداد، ونهجوه، ونحتقره، لأنه يؤذي الناس والمجتمع، ويصادر مستقبل البلد، وهو، كما رأى المعلم الكبير عبد الرحمن الكواكبي، لا يخرج من بلد يحتلها إلا بعد أن يحولها إلى حطام، فكأنه ثور هائج دخل بالغلط إلى معمل فخار، وبدأ بالتكسير حتى تمكن أخيراً من الخروج..
حنان: عفواً أبو مرداس، في موضوع معين خلاك تحكي هالحكي؟
أبو المراديس: ما في شي سلبي، وإذا بتلاحظي إنه قراء مدونة "إمتاع ومؤانسة" بيحبوا حكاياتنا، ولما مننشر روابط التدوينات على صفحات فيسبوك، الناس بيتفاعلوا معها بشكل إيجابي على الأغلب.. لكن أحياناً بعض القراء بيدخلوا في دهاليز بعيدة شوي عن مرمى الموضوعات اللي نحن منتطرق لها.. مثلاً، لما حكى لنا أبو الجود عن عزو آغا، وكيف اضطر ينقل الأشخاص اللي تعرضوا للإغماء لما سمعوا نبأ وفاة جمال عبد الناصر، في ناس أخدتهم الحمية على عبد الناصر، مع أن نحن ما كان هدفنا نقيّمه، أو نعطي حكم قيمة على موضوع الوحدة مع مصر، لأن هالشي صار في ذمة التاريخ، إنما الحكاية كان فيها عدد من المفارقات الجميلة، أولها أن الإقطاعيين الأغوات بشكل عام ما بيحبوا عبد الناصر؛ ومع ذلك صار عزو آغا ينقل الناصريين المغمى عليهم ويسعفهم ويوصلهم لبيوتهم، والمفارقة التانية إنه أشو هالسياسة اللي بتخلي إنسان سوري يغمى عليه إذا مات رئيس جمهورية مصر؟ والتالتة بتتعلق بطريقة المزح اللي بيتبعها عزو آغا وخاصة لما قال إنه زوجته أغمي عليها حزناً على عبد الناصر! والرابعة لما عزيزة هانم بتمثل على زوجها دور المرأة الناصرية من باب المزح طبعاً، وبنفس الوقت في جانب إنساني في الموضوع، الإنسان بتغلب عليه عاطفته الإنسانية وبينسى الآيديولوجية، والدليل إنه عزو آغا أسعفهم وهوي بيعرف سبب الإغماء، وفي جانب آخر، هوي إنه عزو آغا إنسان ظريف، والظرفاء بيكونوا كريمين وأصحاب نخوة، بينما الإنسان العابس ممكن يكون بخيل، وغليظ.. إلخ.
لما صار انقلاب البعثيين والناصريين في سنة 1963، أكتر الناس اعتقدوا إنه انقلاب شيوعي، لأن الإذاعة اللي استولى عليها الانقلابيون كانت تذكر كلمة (اشتراكية) بمعدل عشر مرات في الدقيقة
أم زاهر: كتير كويس الحكي اللي عم تحكيه. أنا بأيّدك.
أبو المراديس: ويبدو أن الأحاديث اللي فيها جانب سياسي عم تكون مطلوبة أكتر. في السهرة الماضية، مثلاً، حكى الأستاذ كمال حكاية ظريفة جرت أحداثها خلال حفلة بعيد المرأة العالمي أقامها الحزب الشيوعي السوري (جناح يوسف فيصل)، وكان الهدف من الحكاية، كالعادة، عنصر الطرافة.. وحتى ما يزعل عمي أبو محمد، أنا بعتذر عن طول المقدمة، وبدي أحكي لكم حكاية صارت قبل حوالي خمسين سنة على الحدود السورية الأردنية.
أبو محمد: أنا بتشكرك لأنك دائماً بتراعي خاطري، وبتشكرك كمان لأنك راح تحكي حكاية..
أبو المراديس: العفو يا أبو محمد. بتذكر إني حكينا نفس الحكاية في سهرتنا من شي سنتين، وما بعرف أيش كانت المناسبة بوقتها، ولا كيف رويناها.. لكن ما بيمنع نحكيها هلق لأنها داخلة ضمن سياق الحديث عن الشيوعيين.
أم زاهر: أنا وأم الجود والست حنان ما كنا بوقتها نسهر معكم. منشان هيك ضروري نسمعها.
أبو المراديس: شعبنا، بالمناسبة يا ست أم زاهر، كتير طيب، وما عنده علاقة بألاعيب السياسة. بتتذكروا القفشة اللي عملها دريد لحام في إحدى مسرحياته لما بيقول (مين بيحب يصير مختار؟) الكل بيرفع إيده، وهوي بيقول (شعب كله زعما من وين بدي أجيب لك شعب؟).. أنا برأيي إنه هالفكرة كلها كذب وافتراء.. من أيمتى شعبنا كله زعما؟ الله يساعد شعبنا ويكون في عونه. الله وكيلكم 98% من شعبنا ماشي جنب الحيط وعم يقول يا رب سترك، ومتلما بيقولوا بالأمتال: بده سلته بلا عنب.
أبو زاهر: بيجوز كانت في نسبة من شعبنا في يوم من الأيام تهتم بالسياسة، بس حافظ الأسد ضرب هالاهتمام بلا شفقة، وصار اللي بيهتم بالسياسة مصيره السجن، أو القتل، أو الجنون، يا إما بده يدخل في واحد من أحزاب الجبهة ويصير يصفق ويخطب ويكذب ويمسح جوخ.
أبو المراديس: صحيح. على كل حال أنا راح أروي الطرفة اللي وعدتكم فيها. في فترة الخمسينات والستينات لما بلشت الانقلابات صاروا الناس البسطاء يخافوا من خيالهم، وكيف ما تحرك الواحد بيخاف ما يوقفه حاجز أو دورية ويبلشوا فيه سين وجيم.
ولما صار انقلاب البعثيين والناصريين في سنة 1963، أكتر الناس اعتقدوا إنه انقلاب شيوعي، لأن الإذاعة اللي استولى عليها الانقلابيين كانت تذكر كلمة (اشتراكية) بمعدل عشر مرات في الدقيقة، والناس يسمعوا اشتراكية يظنوا إنه الجماعة الحاكمة في سورية صارت شيوعية.. وبوقتها كان في سائق سيارة عمومية أردني شبه أمي بينقل ركاب بين عَمّان ودمشق، وسمع بالانقلاب (هني سموه ثورة).. ولما وصل للنقطة الحدودية، وتجاوز الجانب الأردني ووصل للجانب السوري، وقفته دورية أمنية سورية مؤللة، وبلشوا فيه استجواب.. ومتلما بتعرفوا، البعثيين من يوم يومهم بيفكروا حالهم شغلة مهمة، وإنه كل العالم متآمر عليهم. وبعدما سألوه للشوفور المسكين عن بلده، وضيعته، وشقد عنده ولاد، وليش اختار الشغل على هالخط، ومين دافشه، ومين وراه، ومع مين بيتواصل، سألوه عن اتجاهه السياسي.
أبو جهاد: يخرب بيتهم أشو حقيرين.. كمان هالشوفور الغلبان إله اتجاه سياسي؟
أبو المراديس: هادا السؤال أربك الشوفور المسكين، وخطر له بهديكه اللحظة إنه يقول لعناصر الدورية شغلة ترضيهم، وبنفس الوقت ما يزعلوا منه مخابرات الملك حسين، فقال لهم:
- والله يا شباب أنا شيوعي من حزب جلالة الملك!