صفحة من تاريخ العبور
(1)
في الثامنة من صباح السادس من أكتوبر عام 1973، اجتمع كبار قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين، في مكتب رئيسة الوزراء غولدا مائير، لمناقشة تكهنات أثيرت عن احتمالات قيام مصر وسوريا بتوجيه ضربة عسكرية إلى إسرائيل في ذلك الوقت. والمؤكد أن قراءة وقائع تلك الجلسة المنشورة في الجزء الأول من وثائق القيادة الإسرائيلية التي رفع عنها السرية في السنوات الأخيرة ونشرها المركز القومي للترجمة مترجمة إلى العربية قبل سنوات، سيزيد من تقديرك لقيمة ما جرى يوم السادس من أكتوبر عام 1973، حين ظهرت نتائج خطة الخداع الاستراتيجي التي نفذت بدقة شديدة، لدرجة جعلت المخابرات الأمريكية بضخامة إمكانياتها، تبلغ الإسرائيليين عدم اقتناعها بأن المصريين يتأهبون فعلا لشن حرب على إسرائيل.
وبرغم ورود معلومات مؤكدة عن تحركات مكثفة للمدفعية السورية على الحدود، وتسارع وتيرة ترحيل عائلات الروس المقيمين في مصر، بالإضافة إلى معلومات وردت من عميل يحمل اسم (تسفيكا) عن تغيير مقرات الرئيس السادات ومساعديه داخل مصر، إلا أن مسئولي الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية، كان لديهم قناعة راسخة بأن مصر لن تجرؤ على المبادرة بضرب إسرائيل، لأنها لا تملك طائرات يمكن لها قصف العمق الإسرائيلي، وهو ما جعل قائد الاستخبارات العسكرية اللواء إلياهو زعيرا يرفض اقتراح رئيس الأركان الإسرائيلي الفريق دافيد إليعازر بضرورة إعلان حالة التعبئة، واستدعاء جميع احتياطي سلاح الطيران، واستكمال جميع الوحدات النظامية، وهو ما كان سيغير الكثير قطعا، لو كان قد حدث.
كان رئيس الأركان الإسرائيلي يعتقد أن مجرد إعلان تلك القرارات في وقت مبكر، سيفقد العرب ميزة المفاجأة، بل إنه اقترح تصعيد الموقف بتوجيه ضربة وقائية في الثانية عشر من ظهر يوم 6 أكتوبر إلى سلاح الطيران السوري، لتدميره بأكمله، ثم البدء بعدها في القضاء على منظومة الصواريخ السورية خلال 30 ساعة. اعتبر مساعد وزير الدفاع الفريق تسفي تسور أن ذلك الاقتراح خطير، لأنه سيصيب الاقتصاد الإسرائيلي بالشلل، وسيضع الوزارات المسئولة عن توفير الغذاء والوقود في حالة صعبة، ووافقته جولدا مائير الرأي، ووصفت الضربة الوقائية المقترحة بأنها "أمر رائع"، لكن "العالم لن يتفهمها، هذه المرة يبدو العالم في أسوأ صور الخسّة، فلن يصدقونا".
أما وزير الدفاع موشي ديان فقد رفض إعلان التعبئة العامة للاحتياط، موصيا باستدعاء احتياطي سلاح الطيران وفرقتي احتياط للمنطقتين الشمالية والجنوبية فقط، وترك الباقي لتطورات الأمور، أما رئيس المخابرات العسكرية فقد تحدث بثقة شديدة قائلا إن جهازه يعلم كل شيئ عن خطة المصريين والسوريين للحرب، ويدرك أنهم جاهزون تكنيكيا وعمليا للحرب، مضيفاً: "لكن في اعتقادي أنه على الرغم من استعدادهم، فإنهم يعلمون أنهم سيخسرون. السادات حاليا في وضع لا يضطره إلى دخول حرب، كل شيئ جاهز عنده، ولكن ليست هناك ضرورة للحرب، كما أنه يعلم أن ميزان القوى لم يتحسن".
سألته غولدا مائير: "لقد سبق للسادات أن حدد تواريخ وأصدر تصريحات، فهل الأمر مختلف هذه المرة"، فأجابها مؤكداً أن الأمر مختلف بالطبع، لأن السادات لم يصدر الأمر بالهجوم، وحتى لو تراجع في آخر لحظة وأصدره، فسيكون بمقدور إسرائيل أن تؤثر فيما ينوي الإقدام عليه، عن طريق اللجوء إلى الأمريكان لتحذير السادات من شن أي هجوم، لأن اسرائيل مستعدة له، وأنه لا يملك عنصر المفاجأة، مضيفاً بعنجهية: "الوضع هنا مختلف تماما مقارنة بما كان في عام 1967، فهذه المرة هو متأهب تماماً، ولكن يستحوذ عليه الشعور بأنه سيخسر، قد أكون مخطئا في ذلك، ولكنه يعلم أن موازين القوى لم تتغير".
بعد قليل أصر رئيس الأركان على رغبته في إصدار قرار عاجل باستدعاء احتياطي سلاح الطيران وقوات الإحتياطي الخاصة بالوحدات النظامية وأربع فرق احتياط والخدمات المعاونة لها، بحيث يبلغ إجمالي عدد المُستدعين من 100 إلى 120 ألف رجل باحتياجاتهم، ليعارضه وزير الدفاع قائلاً إنه يريد أقل من نصف هذا العدد، رافضا إعلان حالة التعبئة العامة، ومطالبا بالتركيز فقط على سلاح الطيران، وحين قال له رئيس الأركان: "لكن غداً لن يستطيع سلاح الطيران مهاجمة خطوط العدو"، رد وزير الدفاع مهوناً من خطورة ذلك، ومؤكدا أن إعلان التعبئة أثناء الحرب ليس بالإجراء السهل، لكنه ولكي يضع لنفسه خط رجعة، قال إنه ليس مُصراً على موقفه.
تدخلت غولدا مائير محاولة رفع معنويات الجميع بقولها: "ليس عندي سوى معيار واحد وهو لو نشبت الحرب فعلا، فيجب أن نكون في أفضل وضع على الإطلاق، أما بالنسبة إلى الخارج، لو وقعت الحرب، فليغضبوا كما يشاؤون، فالمهم أن يكون وضعنا جيدا للغاية، لن يستطيع أحد أن يُحصي عدد الذين استدعيناهم، يجب أن نحسن التفكير، ثم نتخذ القرار، إذا نشبت الحرب فلنكن في أفضل الأوضاع على الإطلاق، لن نستطيع تبرير الضربة الوقائية، لكن هذا الأمر سيكون محل نظر على مدار اليوم، لو بدأ المصريون الحرب ولن ينضم السوريون لها، سنضرب السوريين أيضا".
اختتمت المناقشات في التاسعة وعشرين دقيقة من صباح السادس من أكتوبر، بتكليف رئيس الأركان بإعلان التعبئة العامة، لكن ذلك الإعلان كان بحاجة إلى ثمان ساعات على الأقل لكي يحقق أثره العسكري، ليثبت بعد ساعات قليلة من نهاية الإجتماع، أن يقين الإسرائيليين باستحالة شن المصريين والسوريين للحرب، كان وهماً كلفهم الكثير.
(2)
في اليوم التالي لإندلاع الحرب المفاجئة على الجبهتين المصرية والسورية، وتمكن الجيش المصري من عبور خط بارليف الذي أقنع الإسرائيليون العالم بأنه لا يُقهر، عقدت القيادة الإسرائيلية سلسلة اجتماعات، كان أولها في التاسعة من صباح يوم 7 أكتوبر، حضره عدد من المسئولين السياسيين والعسكريين، لم يكن من بينهم وزير الدفاع أو رئيس الأركان أو رئيس المخابرات العسكرية. بدأ محضر الإجتماع بعبارة قالها اللواء أهارون ياريف: "هناك مشكلة مع صديقنا كيسنجر في كيفية كسب الوقت"، ليظهر من عبارته أنه يستأنف حديثاً سبق الاجتماع عن اتصالات مكثفة عقدت مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لمساندة الموقف الإسرائيلي دولياً، في الاجتماع أضاف الوزير إيجال ألون أن كيسنجر شكا من الضغوط التي يمارسها العرب على الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تعوق قدرة كيسنجر على المناورة، ليقترح ياريف ضرورة إرسال شخصية مناسبة إلى الولايات المتحدة، لشرح الوضع العسكري لكيسنجر، مقترحاً شخص إسحاق رابين الذي قال أن موشي ديان أيّد اختياره، وهنا علقت جولدا مائير متسائلة بغضب: "أريد أن أسأل ماذا يعنينا في انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، سوف يستمر الانعقاد لعدة أيام، كل سيلقي كلمته، ولا أعتقد أن الأمر ينبغي أن يسير على هذا النحو"، ليعلق أكثر من مشترك عن كون وقف إطلاق النار ليس في مصلحة إسرائيل "التي ترغب في توجيه الضربات للمصريين والسوريين حتى يتم استئصالهم"، خاصة أن الوضع العسكري سيتغير خلال 24 ساعة، كما أكدت جولدا مائير بكل ثقة.
وفي النهاية اتفق المشاركون على أهمية أن يتم إطلاع هنري كيسنجر على حقيقة الوضع، دون مبالغة أو تهوين، وبالطبع يمكن من قراءة المحضر ملاحظة أن الحديث كان دائماً يدور عن كيسنجر بصفته الشخصية، وليس عنه كوزير مسئول في دولة أخرى اسمها أمريكا، وبالطبع لم يخيب كيسنجر الآمال التي علقها عليه قادة إسرائيل، وكان قدها وقدود.
حين طلبت جولدا مائير في ذلك الاجتماع من إسحاق رابين أن يقدم لها تقييما للوضع، بوصفه عائدا للتو من غرفة العمليات، قال لها كلاما مهما يلقي الضوء على طريقة سير المعارك في الجانب المصري، وكيف لم يتم استثمار حالة المفاجأة التي بدأت بعد لحظات العبور، وكان مما قاله الآتي: "لقد عبر المصريون في الجنوب، وهناك نقص في قوات المدرعات المصرية، هناك جُسور، غير أنه ليس واضحا، لماذا لا تعبر القوات المصرية بالمدرعات، فمن الناحية العملياتية قواتنا لا تعوقهم، إذ لم يتبق من اللوائين الإسرائيليين سوى ثلث عدد الدبابات، لقد أصبح المصريون بقوات المشاة وأسلحتهم المضادة للدبابات، يسيطرون تماما على طول خط القناة بنقاطه الحصينة، ولن تصل الدبابات الإسرائيلية إلا في وقت متأخر، وستكون فرقة بيرن هي أول من تصل إلى تلك المنطقة، لقد وصلت 20 دبابة إلى هناك، ولم يُدفع بها للقتال حتى الآن، وسلاح الجو الإسرائيلي هو حاليا من يمتلك الحل في الشمال وفي الجنوب، غير أن هناك مرحلة تشهد الكثير من الأمور غير المستحبة، وهذا سيكون حتى سماء اليوم، إنني على يقين بأنه مع حلول المساء، ستصل 200 دبابة أخرى إلى الجبهة الجنوبية، ومعدل استدعاء القوات والدفع بتعزيزات من الدبابات مستمر بشكل جيد للغاية، غير أن هناك نقصا في الأطقم... لقد أقام المصريون مواقع عسكرية أمامية تحتوي على المئات من الدبابات، على الجانب الثاني من القناة، إلا أن الصورة غير واضحة بالقدر الكافي، وما دامت الأمور غير مستقرة، سيكون من الصعب علينا أن نعرف".
وحين قال إيجال آلون إن الحل الآن بالنسبة لإسرائيل يتمثل في قيام سلاح الطيران بقصف حائط الصواريخ المصري، اختتمت جولدا مائير الحديث في الاجتماع، مشيرة إلى خطأ حالة الثقة التي تم الإستسلام لها بالأمس، وكان الإنفعال متغلبا عليها لدرجة أضعفت قدرتها على التعبير عن أفكارها بوضوح وهي تقول: "إذا ما واجهنا وضعا كهذا مرة أخرى، لا قدر الله، فيجب علينا ألا نكترث لموقف العالم، وأن نعطي الجيش زمام المبادرة، بالأمس كنا جميعا مجمعين في هذا الشأن على عدم توجيه ضربة وقائية، بالأمس، وكأنما مضى عليه شهر، وقتها قال لي دادو: وفري لي الإمكانية، في النهاية وهذا أمر مهم، نحن نحظى بصورة جيدة عند الأمريكيين فقط، وعلى الرغم من ذلك، لم يفلح كيسنجر في الحصول على تأييد دولتين أو ثلاث دول أخرى، حتى يطالب بوقف إطلاق النار، وبأن يعودوا إلى مواقعهم".
(3)
الوثيقة السرية التالية التي تتوفر لنا قراءتها في الجزء الأول الذي ترجمه فريق من المترجمين يشرف عليه الدكتور إبراهيم البحراوي، هي محضر جلسة مشاورات عقدت يوم 7 أكتوبر في الساعة الواحدة وأربعين دقيقة ظهرا، وضمت جولدا مائير ومساعد وزير الدفاع تسفي تسور والعميد يسرائيل لينور، حيث تحدث تسور عن توجيه طلب للأمريكان بالحصول على قوائم طويلة من المستلزمات العسكرية، من أهمها 40 طائرة فانتوم وحاملات دبابات، لكن الأمريكان ظلوا يتلكؤون في الرد، وهو ما حاول الحاضرون التفكير في حلول عاجلة له، حتى يتاح لرابين الحديث مع كيسنجر بشكل مباشر، كما تم الاتفاق عليه في الإجتماع السابق، قبل أن يتحدث مساعد وزير الدفاع عن اندهاشه من عدم تأثر حالة الإقتصاد الإسرائيلي بالحرب كما كان يتوقع، حيث أن "حالة الاقتصاد أفضل مما كانت عليه خلال حرب 1967"، لكنه قال بثقة مشوبة بالحذر: "ليس هناك مؤشر ينم عن وجود نقص في العتاد الحربي بالميدان، إذا ما انتهت الأمور خلال أسبوع، فلن نعاني من أي نقص، أما أكثر من ذلك، فستكون هناك مشاكل".
بعد هذا الاجتماع بساعة، عُقدت جلسة مشاورات أخرى بالغة الأهمية، حضرها إلى جوار جولدا مائير عدد من المسئولين على رأسهم نائب رئيس الوزراء إيجال ألون والوزير يسرائيل جاليلي ووزير الدفاع موشيه ديان ووكيل أول وزارة الخارجية أفراهام كيدرون. كان موشي ديان عائدا لتوه من الجبهة الجنوبية، بعد أن زار الجبهة الشمالية قبلها، اعترف أن الوضع ليس جيدا وأن هناك أعداداً من القتلى والأسرى، وقال إن أعدادهم ستزيد، لكنه أكد عدم تشاؤمه وأمله في الثبات، ثم بدأ في سرد تصور للوضع، حاول أن يجعله بشدة عقلانيا وعمليا، ليمكن من خلاله مواجهة تدهور الموقف في الجبهة الجنوبية، وكان من بين ما قاله: "أقترح أن نصدر أمرا الليلة بإخلاء المواقع التي لا أمل في الوصول إليها، حصن بودابست لا يقع في منطقة مفتوحة، لذلك لا أنصح بالانسحاب منه، أما الأماكن التي يمكن إخلاؤها فسنخليها، والأماكن التي يستحيل إخلاؤها، سنُبقي فيها المصابين، ومن يمكنه الوصول فليصل، وإذا قرروا الاستسلام فليستسلموا، ينبغي أن نبلغهم: بأننا لا يمكننا الوصول إليكم، حاولوا كسر الحصار أو استسلموا، هناك مئات من الدبابات المصرية أصبحت موجودة في الضفة الشرقية، وأي محاولة للوصول إلى تلك المواقع، هي بمنزلة سحق للدبابات، ينبغي لنا أن نُخلي ذلك الخط دون أمل في الرجوع إليه، بل الانسحاب إلى خط المضايق، الحرب ستستمر، خط ممر متلا له مزايا، لكن أيضا عيوب، أما خط القناة فلا أمل فيه".
وقبل أن يوجه إليه أحد اللوم أو السؤال، قرر ديان أن يبادر بنقد ذاته وأدائه في اليوم السابق للحرب، قائلاً: "ليس هذا هو الوقت المناسب لمحاسبة النفس، إنني لم أقدر جيدا قوة العدو، ولا قدرته القتالية، بينما بالغتُ في تمجيد قواتنا وقدرتها على الصمود، إن العرب يقاتلون بشكل أفضل بكثير من ذي قبل، لديهم الكثير من الأسلحة، وهم يصيبون دباباتنا بأسلحة خاصة، أما الصواريخ فتشكل مظلة منيعة لا يمكن لسلاحنا الجوي سحقها، ونسبة نجاح إصابة تلك الصواريخ تبلغ 70%، ولكنهم في هذه الليلة سيأتون بصواريخ جديدة، ولست أدري إن كان الوضع سيختلف جذريا أم لا، لو أننا كنا قد وجهنا ضربة استباقية، وإليكم تعداد القوات كما هي عليه الآن وصباح الغد: في الجبهة المصرية لدينا 800 دبابة، وللمصريين 2000 دبابة. للسوريين: 1500 دبابة ولنا 500 دبابة. في الجو: لنا 250 طائرة وللمصريين 600 وللسوريين 250، ولديهم الحماية المتمثلة في الصوايخ وهذا الأمر ليس في صالحنا".
وبنبرة شديدة التشاؤم واصل موشي ديان تقييمه الخطير للموقف على الجبهتين المصرية والسورية قائلا: "المشكلة المستقبلية تكمن في أمرين، الا وهما:
أـ أن العرب لن يوقفوا الحرب ـ ستلاحظ خلال الإجتماعات المختلفة أن ديان يستخدم كلمة العرب، ولا يقوم بتحديد الجنسيات إلا حين يتحدث عن جبهات القتال بالتحديد ـ وإذا أوقفوها ووافقوا على وقف إطلاق النار، فإنهم قد يستأنفونها من جديد، وحينئذ ستكون الحرب على أرض دولة إسرائيل، وإذا انسحبنا من هضبة الجولان، فلن يجدي ذلك نفعا.
ـ ب: هناك مشكلات في العتاد، يجب أن نلجأ للأمريكيين، إذ ينبغي أن نشتري 300 دبابة، كما نحتاج المزيد من الطائرات، لديهم عتاد في أوروبا، ستنضم إلينا أيضا أطقم دبابات، يجب أن نكون مستعدين لحرب طويلة، ولا أعتقد أننا بهذه الخطوط، سيلزمنا الحفاظ على أرض إسرائيل ذاتها".
وهنا يبدي موشي ديان استغرابه الشديد من أن العرب لم يهاجموا حتى بالأسلحة التقليدية المناطق المأهولة بالمدنيين (في هذا الموضع بالذات حذفت الرقابة العسكرية الإسرائيلية ست كلمات ربما كانت تشير إلى المناطق التي تشكل موضع خطورة على اسرائيل لمن قد يريد ضربها في المستقبل)، قبل أن يطلب موشي ديان من القادة الحاضرين، ألا يأملوا في إمكانية شن هجوم مضاد على العرب، قبل أن يضيف بانفعال وهو يتحدث عن بطولات المقاتلين المهزومين: "الوضع الآن يحتم علينا وجوب الحفاظ على أرض دولة إسرائيل، إذا حاولوا احتلال مدينة النقب فلن يمكننا منعهم من ذلك، كل ما يملكه اليهود وزعناه، حتى أطقم الدبابات والطيارين، لا توجد بوفرة، سيسقط كثير من الأفراد، أرسل المصريون أسرانا حاملين الرايات، لإقناع أحد مواقعنا بالإستسلام، تكبدنا مئات الخسائر في الأرواح، وهناك الكثير من الأسرى، كل من فقدناه سواءا دبابة أم فرد كانوا أثناء القتال الضاري حتى آخر لحظة، إننا دفعنا ثمن القتال بشرف، سواءا في سيناء أم في الجولان، هاجم المصريون والسوريون بأسلحة ذاتية، وأصابوا مدرعاتنا، تلك هي رؤيتي الصادقة وهكذا أرى الأمر، كميات الأسلحة لديهم مؤثرة والميزة الأخلاقية لدينا لا تصمد أمام تلك الجحافل".
لكن ذلك كله كان قبل أن تصبح سيناء ميداناً للكوارث لا البطولات، وحين كانت مصر مشغولة بالبحث عن النصر والكرامة، بدلا من انشغالها بتبرير الهزائم والتعايش معها بل وصُنعها إن لزم الأمر، وقبل أن نشهد الأيام اللعينة التي تستأذن فيها مصر من اسرائيل قبل أن تحرك قواتها على أرض سيناء، وتقوم طائرات اسرائيل باختراق الأجواء المصرية بدعوى مساعدة مصر في البحث عن ضحايا طائرة روسية منكوبة، وتشكر الصحافة الإسرائيلية نظام السيسي، لأنه منح صوت مصر لمصلحة إسرائيل في أحد محافل الأمم المتحدة لأول مرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
...
جزء من قراءة طويلة في مجموعة من الوثائق الإسرائيلية عن حرب أكتوبر نشرت بعنوان (حين كانت سيناء ميدانا للبطولات لا الكوارث)، وتنشر كاملة في كتاب يصدر قريباً بإذن الله.