طبائع العمران وتفنيد مرويات التاريخ

24 يوليو 2024
+ الخط -

كثيرة هي المرويات التاريخية التي يحفل بها تراثنا العربي والإسلامي، ولعل أخطر تلك المرويات هي الموجودة في كتب التفسير لما تختص به من قداسة بسبب ارتباطها بالقرآن الكريم.

أما في كتب التاريخ، فحدّث ولا حرج، فما أكثرها عند الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرها من كتب التاريخ التي تكدست داخلها مرويات نقلتها الأجيال كابراً عن كابر حتى وصلت إلينا، بل وتداخلت تلك المرويات مع الأساطير، حتى أنك لا تستطيع أن تفرّق بين الأسطورة والتاريخ في تلك الأحداث، وما قصص عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي إلا نموذج لذلك.

المشكلة في مرويات التاريخ أن كتّابها القدامى ما كانوا محققين، بل مجرد ناقلين للرواية كما هي، حتى ولو خالفت المعهود، وذلك عندهم من باب أمانة النقل، لذا فتمحيص روايات التاريخ لا بد منه حتى لا تتعلق الأذهان أو تعوّل على روايات تاريخية وأخبار لا أصل لها ولا جذر لمجرد أن ذكرها الكاتب الفلاني أو المؤرخ الفلاني، وهو ثقة ولا يصح رد روايته.

إن ميزة التمحيص من ميزات العقل النقدي التي يمتاز بها عن العقل النقلي المحض، يقول د. خالص جلبي في مقالة (العقل النقلي والعقل النقدي): "يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات: (تمرير الأفكار) بدون مناقشة، و(تكرارها) بدون تمحيص، و(تبريرها)، بل والدفاع عنها حتى الموت، أما العقل (النقدي) فيقابل المعطيات السابقة، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على (تنقية وغربلة) الأفكار القادمة من العالم الخارجي، كما تقوم على (تأمل) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي، وطالما قامت بوظيفة (المراجعة الدؤوبة) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي، وأداة وعي حادة، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة، فالعقلية النقدية سلامية، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين".

طبائع العمران

جاء مبدأ التفنيد للمرويات على يد العلامة عبدالرحمن بن خلدون (732 -808 هـ) أبو علم الاجتماع الذي صاغه في مقدمته المشهورة – وهي الجزء الأول من كتابه (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)- فوضع معياراً أساسياً لتقبل المرويات، وهو موافقتها لطبائع العمران، كما يسميه، فيقول: "القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميّز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يُعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، لأن الأخبار إذا اُعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قِيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يُؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق".

ويعرض ذلك د. خالص جلبي بقوله: "فالأخبار بعد اليوم لا تكتسب صحتها ممن رواها، بل باستنطاقها هي بالذات، ومن خلال (الواقع)، فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على (الواقعات)، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كُتب عنها، أياً كان كاتبه ومصدره".

ولو رجعنا إلى العلم الحديث، لوجدناه استنطق عمر الكون من مكوناته التي تم فحصها، وليس ما دوّنه الرواة في الكتب القديمة، ومثلها كثير من الحقائق العلمية التي جاءت مخالفة لما بين يدينا من كتب سابقة كتبها البشر، وأوصلها لنا البشر.

تمحيص الخبر أولاً

يركز ابن خلدون على تمحيص الخبر أولاً قبل الراوي، لأن الخبر هو محور الارتكاز الأساسي في النقل، فإن سلم الخبر انتقل التمحيص للرواة بما يُعرف بالجرح والتعديل، فيقول: "ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح".

ثم يُورد ابن خلدون أسباباً للكذب في الخبر، فيقول: "ولمّا كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه.

فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نِحلة قبلتْ ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله.

ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.

ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.

ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين، ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المُخبر كما رآها، وهي بالتصنّع على غير الحق في نفسه.

ومنها تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التَجِلَّة (أي السلطة) والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلّعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.

ولكن أهم تلك الأسباب الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفي ما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق على الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض، وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة".

ثم يورد ابن خلدون نماذج لروايات المؤرخين وتفنيدها لديه، من ذلك، الرواية التي أوردها المسعودي وغيره، أنّ جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل، فيرى ابن خلدون أن المبالغة في هذا الرقم واضحة جداً، وأن تحديد الجيش بهذا العدد أمر غير معقول، وأنّ القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته، وذلك أنّ ما بين موسى ويعقوب عليه السلام هو أربعة آباء؛ فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب، وقد كانوا سبعين نفساً، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة، فيبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد، إلى جانب عدم ملاءمة مساحة الأرض (مصر والشام) واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، لأن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها.

ونحن اليوم، ألسنا في حاجة إلى مثل هذه الضوابط والقوانين، إن صح التعبير، لتفنيد الأخبار التي تبثها وسائل الإعلام والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي؟

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري