طبيب فقراء الفيحاء
في هذا الأسبوع تحل الذكرى السنوية لوفاة طبيب الفقراء وأحد أعلام مدينتي الصغيرة والعتيقة، مدينة الناصرية الفيحاء. اسمه عبد الخالق، وأضفى الخالق عليه بَسطَة في العلم والمحبة. كان قلبه يسع الجميع وإن احتدم اختلاف أفكارهم السياسية. كان يعالج الجميع بدون استثناء، ليس فضلاً منه، لكن وفاء لقسمه الذي أقسم به عند تخرجه، وأداء لواجب برّ العلم الذي أفاضه عليه الخالق.. فأود مشاركتك يا عزيزي القارئ سيرة هذا الطبيب الفذ رغبة في الفائدة.
اطلب العلم من المهد إلى اللحد
كان عبد الخالق من أسرة فقيرة لوالد بالكاد يفك الخط وأم لا تجيد القراءة والكتابة، لفقر العائلة المدقع، حاول والده إجباره على دخول إعدادية إعداد المعلمين عندما كان عبد الخالق في دراسته المتوسطة، طمعاً في وظيفة سريعة المنال لكي تسند حال العائلة المتعب، كان وضع العائلة الفقير يجعل فكرة الحلم والطموح رفاهية لا يعتقد بحليتها أو استحقاقها، فكيف يكون حلالاً أن يحلم الفقير بغير كسرة الخبز وهو صاغر!
وربما تشارك أهل عبد الخالق في ذلك الوقت بهذا الفكر مع الكثير من أهلنا في العالم العربي، والعراق الآن. لكن تفوقه الدراسي وذكاءه الحاد شكلا حاجزاً في نفسه أن يستسهل طريق العيش في مهنة لا يجد نفسه فيها وأن يخسر حلم حياته مقابل مكسب سريع..
وانقلب السحر على الساحر وأجبر عبد الخالق والده بالحيلة على أداء امتحان الدراسة الابتدائية الخارجي، ليتخرج والده بشهادة الابتدائية لزيادة معاش العائلة، وليكمل عبد الخالق دراسته تحت أضواء الشارع مع عمله في الأسواق ليحصل على معدل عال أهّله لدخول كلية الطب جامعة الموصل، كانت مفاجأة في مدينته آنذاك، كون فقير معدم سيصبح طبيباً، في زمن كان الفكر الإقطاعي مسيطراً بتطرف على عقول الناس.
استمر عبد الخالق يتشارك مع الناس الخبز والماء ويعالج المحتاجين بالمجان إلى أن توفاه الله تعالى
الجيرة الطيبة ومرارة الحرب
تمازجت ثقافة الموصل مع روحه وتعرف إلى الثقافة الأيزيدية والكردية، وأصبحت له صلات إنسانية قوية مع من صاروا الآن من كبار القادة الكرد في كردستان العراق، وكان ممن زامله في مقاعد الدراسة إبراهيم الأشيقر الجعفري، الذي أصبح أحد أعضاء مجلس الحكم، ثم رئيس وزراء العراق بعد عام 2003، وأنقذت علاقاته الإنسانية حياته وحياة الجنود في وحدته، فبعد تخرجه من كلية طب الموصل، التحق بالخدمة العسكرية الإلزامية ليكون مركز خدمته هو الوحدة الطبية في أحد خطوط التماس في حرب الشمال ضد من يسمون في ذلك الوقت بـ"الانفصاليين" الأكراد في مطلع السبعينيات، كان يقدم الخدمات العلاجية كطبيب للجميع، مدنيين كانوا أم عسكريين وهذا ما ساهم في حب الأكراد البسطاء لهذا الجنوبي سماراً ومحيا، وكذلك لمعرفة الأكراد به من أيام دراسته، فكان القناصة يمتنعون عن الكمن للمجموعة التي يكون فيها..
انتقل بعدها لكفاءته وقدراته اللغوية بين خدمةٍ في ملحقية وزارة الصحة في السبعينيات في جيبوتي إلى إكمال دراسة الاختصاص في الأمراض الوبائية في بريطانيا، ليشاء الحكيم أن يرجع إلى العراق مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، كان هناك قانون عراقي أن لا يخدم الطبيب الحاصل على مرتبة (الاختصاص) في الجبهة الأمامية في خطوط القتال، لكن سيق عبد الخالق إلى هناك -حتى يثبت أنه طبيب اختصاص- كما أخبره المسؤول العسكري باستهزاء، لعلمه أنه أصلاً طبيب اختصاص، لكن قرار سوقه ليكون جندياً مكلفاً كان بوشاية من البعض، كونه معارضاً سابقاً لحزب "البعث" في الستينيات، ولم ولن ينتمي لحزب "البعث".
في مناطق المعارك الملتهبة كانت القصص التي يرويها عنه الجنود كأنها تصف أحداثاً ماورائية، ومنها أنّ السيارة التي تنقله في حالة الانسحاب (حيث إنّ مفرزته الطبية دائماً ما تكون آخر من يخلي موقع الواجب)، كانت تمتلئ بثقوب رصاص المعارك، لكن لا يصاب أحد من ركابها بأذى، كانت حرباً ضروساً وامتلأت خنادق خطوط الجبهة الأمامية بالشهداء والمصابين.
المنجاة في الصدق
في أحد قواطع مدينة العمارة الملتهب، كان النوم من صعاب الأمور نتيجة القصف المستمر وعمليات الكر والفر، ومع قلة النوم كانت العقارب نتيجة الاهتزازات الأرضية بفعل القنابل ومقذوفات مدفعية الهاوتزر 101 والـ155 تهرب لتختبئ تحت أفرشة الجنود ومنهم عبد الخالق، كانت معجزة أنه لم تقتلهم تلك العقارب السامة..
في أحد الأيام تم استدعاؤه إلى مقر القيادة الميدانية حيث كان أحد الضباط مصاباً بشظية سطحية في الرقبة، كانت قطعة معدن صغيرة ملتصقة بالجلد بفعل الحرارة، فقام عبد الخالق بإزالتها بسهولة، وبدأ بكتابة تقرير أنّ إصابة هذا الضابط سطحية، لكن لطمعه بـ"نوط الشجاعة"، حاول هذا الضابط بكل الوسائل أن يجبر عبد الخالق على أن يكتب أن الضابط "أصيب إصابة شديدة ورفض الإخلاء من ساحة المعركة". وبالطبع كونه طبيباً ذا مبادئ سيرفض كذبا كهذا، فسرعان ما تطور الأمر ليمثل عبد الخالق في محاكمة ميدانية في مقر آمر الوحدة، وعند سؤاله عن الموضوع أخبر عبد الخالق آمر الوحدة بأنه طبيب اختصاص متمرس، وأنه لن يكذب في التقرير لأي سبب كان، وهنا وبمهنية، أمر الآمر برفض القضية وكذلك بتسريح عبد الخالق من الخدمة العسكرية، كونه طبيب اختصاص، وخدمته كطبيب (برتبة جندي مكلف لا ضابط كأقرانه الأطباء، كونه من المغضوب عليهم) في الخطوط الأمامية هي أمر مخالف للقانون. وهكذا بعد عدة سنين في الخطوط الأمامية عاد عبد الخالق منهكاً إلى بلدته الصغيرة.. الناصرية.
خير الناس من نفع الناس
استمر عبد الخالق بخدمته للمجتمع العراقي كطبيب يداوي الناس، لكن الفقر المدقع وخصوصاً بعد الحصار الاقتصادي، جعله مضطراً لمعالجة الناس بدون مقابل، بل زاده للاجتهاد والبحث عن أدوية بديلة رخيصة الثمن لمرضاه، أما ما تشاركه بعض تعساء الحظ من الفرنسيين والستة عشر ألف عراقي من إصابتهم بالإيدز نتيجة استيراد العراق لأمصال دم ملوثة من فرنسا (ولهذا قصة لا تتسع هذه السطور لذكرها الآن)، فكان عبئاً على كاهله نتيجة لانعدام العلاجات اللازمة نتيجة العقوبات الاقتصادية، فكان يفعل المستحيل لتوفير ما تيسر رغم حالة العسر والضيق.
وما زاد الطين بلة هي موجة التهاب السحايا الوبائية التي أصابت معسكرات الجيش العراقي في منتصف التسعينيات، والتي اضطرت المستشفى العسكري لإرسال تلك الحالات "الميؤوس منها" إلى وحدة عبد الخالق المدنية، وشفوا بأعجوبة، والأهم أنّ وحدة الحميات التي يديرها لم يصب فيها العاملون بهذا المرض الفيروسي شديد العدوى، رغم انعدام التجهيزات الوقائية والمطهرات نتيجة الحصار، (بقي التكنيك الذي استعمله عبد الخالق في إدارة أزمة التهاب السحايا الوبائي حياً، واستذكره الأطباء بعد وفاته لإدارة وعلاج مضاعفات وباء القرن الحادي والعشرين: كوفيد 19).
استمر عبد الخالق يتشارك مع الناس الخبز والماء ويعالج المحتاجين بالمجان إلى أن توفاه الله تعالى فقيراً مادياً، لكنه أورث أولاده سيرة لا مثيل لها، خصوصاً أنه رغم معرفته الوثيقة بالكثير ممن تسنموا السلطة في عراق ما بعد 2003، إلا أنه عفّ عنهم واستمر طبيباً يعالج الفقراء بالمجان وغير مبالٍ بفقره المادي لحين وفاته.