طلاّب الجامعات العالمية... لم يتضامنون مع فلسطين؟
من اللافت للانتباه بروز أصوات داعمة للقضية الفلسطينية في الأوساط الجامعية الأميركية خلال الحرب الأخيرة التي تلت عملية طوفان الأقصى، لم تكن معهودة فيما مضى.
فقد نُظّمت احتجاجات ومسيرات داعمة للقضية الفلسطينية في جامعات كثيرة، أذكر منها جامعة هارفارد، جامعة واشنطن، جامعة جورج ماسون، جامعة فلوريدا أتلانتك، جامعة كولومبيا في نيويورك، جامعة أريزونا وغيرها من الجامعات، حيث رفع المشاركون شعارات تندّد بوحشية القصف الإسرائيلي على القطاع، وبقطع أسباب الحياة من ماء وكهرباء وغذاء، كما دعوا لإنهاء الاحتلال ونظام الفصل العنصري ومواجهة التطهير العرقي والدعاية الإسرائيلية والأكاذيب على حدّ وصفهم. فما الذي يدفع هؤلاء الطلاب إلى الدفاع عن حقوق الناس في فلسطين؟.
يعود ذلك بتقديري إلى قدرة الطلاب على تبسيط المفاهيم أعلاه، وعقد مقارنات مع التحديات في حياة الطالب، وكيف تتعامل السلطاتُ على اختلاف مسميّاتها معه.
خذ على سبيل المثال، التنمّر في المدارس والجامعات، فمما يتكرّر في هذا الملف الحسّاس على سبيل المثال، أن يُفتح تحقيق في واقعة ضربٍ أدّتْ إلى جرحٍ بالغ، تَطلّب تدخل الشرطة لفرض النظام. يقف المحققون على أسباب الواقعة، فيتبيّن لهم أنّ ثمة تاريخا من الوقائع التي سبقت هذا الحدث. أسباب قد لا تبرّر ما وصل إليه الحال بين الطالبين، ولكنها تفسّره، وتضع الحدث في تسلسل زمني يستطيع المطلّع على تفاصيله أن يفهم ما حدث ضمن سياق التعرّض إلى تنمّر مستمر.
في حدث وقع قبل أعوام في مدرسة عملتُ بها كمعلم دمج للطلبة ذوي الاحتياجات (طيف يشمل الاحتياجات الأكاديمية والنفسية والاجتماعية والانفعالية)، حاورتُ طالبًا في الصف التاسع الإعدادي بسبب أذيته لطالب آخر يكبره سنًا. سألته: "كلّنا نعرف أخلاقك! ما الذي دفعك لذلك؟". فأجابني، وقد هدأ: "أنت تجلس معي الآن لأنني فعلت ما فعلت، ولكن أحدًا منكم لم يتّخذ إجراءً يحول دون الوصول بي إلى هذه اللحظة".
شعرتُ بالأسى تجاه ذلك الطالب، لم أكن من الذين وصلتهم رسائله قبل الحادثة، فقد طُلب مني التحرّك بعدها، ولكنني حين أجريت تحقيقًا وجدتُ عدّة تقارير كتبها لمعلمه المسؤول حول مضايقات تعرّض لها. وحين سألت المعلّم عن التقارير التي وصلته قال لي: "لقد تحدثتُ مع المُتنمر، ولكنه لم يستجب".
يميل الطلاب في هذا العمر إلى تحدّي كلّ ما يسلبهم حريتهم، مع علمهم أنّ من شأن هذا الدعم لحقوق الفلسطينيين الأساسية بالعيش بحرية، أن يُلحق بهم ضررًا اختاروا أن يواجهوه
أفكر في ذلك الآن، وأتذكر أنّنا كنّا نعمل ضمن نظام يتغاضى عن التنمّر والمضايقات في سبيل الحفاظ على أعداد الطلاب، حتى لا نخسر المال الذي يدفعه ذووهم.
في نقطة أخرى، ترتبط فيما أذهب إليه، نرى في حالات مشابهة في النظام التعليمي حالات من التغاضي عن أخطاء طلاب بعينهم، نظرًا لمساهمات ذويهم المادية أو مناصبهم أو علاقاتهم التي قد تكون سببًا في خلق محاباة يستطيع الطلُاب الإحساس بها ورصدها أكثر من غيرهم نظرًا لرزوحهم تحت وطأتها، مما يجعل الآباء (غير المتضرّرين مباشرة من هذه المحاباة)، غير قادرين على استيعاب ضررها المباشر في نفوس الطلبة.
أخيرًا، إنّ ما يدعو الطلاب في تلك الجامعات إلى المقاومة (رفعت لافتاتُ تدعم المقاومة الفلسطينية بصفتها سبيل إلى الحرية) هو مفهوم "الماتركس" التي يؤمن بوجودها الجيل الجديد، المنظومة التي تحكم العالم، والتي ما أن تحيد عمّا تطلبه منك، حتى تجد نفسك وقد عرّضتها لخطر عدم الانصياع، وهو الأمر الذي يدفع الشباب في تلك العمر إلى تحدّي كلّ ما يسلبهم حريتهم، ومن ذلك، دعمهم لصاحب الحق، المحتاج للدعم، مع علمهم أنّ من شأن هذا الدعم لحقوق الفلسطينيين الأساسية بالعيش بحرية أن يُلحق بهم ضررًا اختاروا أن يواجهوه، ما يجعلهم فخورين (على الأقل أمام أنفسهم) أنّهم لم يخضعوا لقوة، ولم يركنوا لخوف.
في النهاية، من واقع رصدي لمقارنات كثيرة عقدها هذا الجيل خلال الأسبوع الذي تبع عملية طوفان الأقصى، وهي مقارنات تربط بين الإنمي (الذي يشاهده الجيل الجديد بكثرة) والأحداث الجارية في غزة الآن، فهي تربط بين الملثمين وأولئك الأبطال الذين يُضحّون بأرواحهم عازمين على مقاتلة الشر وإحقاق الحق في الرسوم الكرتونية مثل أسطورة روبن هود، وزورو، ولوفي دي مونكي.
رموز رغم أسطَرَتها، إلا أنها تخطِئ وتصيب، تُقدمُ وتحجِم، وتتعرّض للتمجيد وللإدانة، أساطير تخضع لمنظومة وتتبناها، تحبّ الحياة، لا تحبّ الموت، ولكنها تسعى لهدف سامٍ، للحق الذي لن يكون بهذه الرفعة، وهذا السمو، دون احتمال الموت في سبيله.